{ كراهة النذر
وأنه يستخرج من البخيل }
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( قَالَ
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : لاَ يَأْتِي النَّذْرُ عَلَى ابْنِ آدَمَ بِشَيْءٍ لَمْ
أُقَدِّرْهُ عَلَيْهِ ، وَلَكِنَّهُ شَيْءٌ أَسْتَخْرِجُ بِهِ مِنَ الْبَخَيلِ ،
يُؤْتِينِي عَلَيْهِ مَا لاَ يُؤْتِينِي عَلَى الْبُخْلِ. "وَفِي رِوَايَةٍ"
: مَا لَمْ يَكُنْ أَتَانِي مِنْ قَبْلُ ) . "الصحيحة"
(478) .
{ قَالَ شيخُنا الألباني (1 / الثاني / 860-862) ع. } :
من فقه الحديث
:
دلَّ
الحديث بمجموع ألفاظه أن النَّذرَ لا يُشرع عقده ، بل هو مكروه ، وظاهر النهي في
بعض طرقه أنه حرام ، وقد قال به قوم ؛ إلا أن قوله تعالى : (أَسْتَخْرِجُ بِهِ
مِنَ الْبَخَيلِ) يشعر أن الكراهة أو الحرمة خاص بنذر المجازاة أو المعاوضة ، دون
نذر الابتداء والتبرُّر ، فهو قربة محضة ؛ لأن للناذر فيه غرضاً صحيحاً ، وهو أن
يُثاب عليه ثواب الواجب ، وهو فوق ثواب التطوع ، وهذا النـذر هو المراد - والله
أعلم - بقوله تعالى : ]يُوفُونَ
بِالنَّذْر[ دون الأول .
قال
الحافظ في "الفتح" (11 / 500) {ط. الخطيب (11 / 578-579)}.
"وَقَدْ
أَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْله تَعَالَى : ]يُوفُونَ
بِالنَّذْرِ[ ؛ قَالَ : كَانُوا يَنْذُرُونَ طَاعَةَ اللَّه مِنْ الصَّلَاةِ
وَالصِّيَامِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَمِمَّا افْتَرَضَ
عَلَيْهِمْ ، فَسَمَّاهُمُ اللَّهُ أَبْرَاراً ، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ
الثَّنَاءَ وَقَعَ فِي غَيْرِ نَذْرِ الْمُجَازَاةِ" .
وقال
قبل ذلك :
"وَجَزَمَ
الْقُرْطُبِيُّ فِي "الْمُفْهِمِ" بِحَمْلِ مَا وَرَدَ فِي
الْأَحَادِيثِ مِنَ النَّهْيِ عَلَى نَذْرِ الْمُجَازَاةِ ، فَقَالَ : هَذَا
النَّهْيُ مَحَلُّهُ أَنْ يَقُولَ مَثَلاً إِنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي ؛
فَعَلَيَّ صَدَقَةُ كَذَا وَوَجْهُ الْكَرَاهَةِ أَنَّهُ لَمَّا وَقَفَ فِعْلَ
الْقُرْبَةِ الْمَذْكُورَ عَلَى حُصُولِ الْغَرَضِ الْمَذْكُورِ ؛ ظَهَرَ أَنَّهُ
لَمْ يَتَمَحَّضْ لَهُ نِيَّةُ التَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِمَا صدر
مِنْهُ ، بل سلك فِيهَا مَسْلَك الْمُعَاوضَة وَيُوَضِّحُهُ أَنَّهُ لَوْ لَمْ
يَشْفِ مَرِيضَهُ ؛ لَمْ يَتَصَدَّقْ بِمَا عَلَّقَهُ عَلَى شِفَائِهِ ، وَهَذِهِ
حَالَةُ الْبَخِيلِ ؛ فَإِنَّهُ لَا يُخْرِجُ مِنْ مَالِهِ شَيْئاً إِلَّا
بِعِوَضٍ عَاجِلٍ يَزِيدُ عَلَى مَا أَخْرَجَ غَالِباً ، وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ
الْمشَار إِلَيْهِ فِي الحَدِيث بِقَوْلِهِ : (وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنَ
الْبَخِيلِ مَا لَمْ يَكُنِ الْبَخِيلُ يُخْرِجُهُ) ، وَقَدْ يَنْضَمُّ إِلَى
هَذَا اعْتِقَادُ جَاهِلٍ : يَظُنُّ أَنَّ النَّذْرَ يُوجِبُ حُصُولَ ذَلِكَ
الْغَرَضِ ، أَوْ أَنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَعَهُ ذَلِكَ الْغَرَضَ لِأَجْلِ ذَلِكَ
النَّذْرِ ، وَإِلَيْهِمَا الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ أَيْضاً :
(فَإِنَّ النَّذْرَ لَا يَرُدُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ شَيْئاً) ، وَالْحَالَةُ
الْأُولَى تُقَارِبُ الْكُفْرَ ، وَالثَّانِيَةُ خَطَأٌ صَرِيحٌ" .
قال الحافظ :
"بَلْ تَقْرُبُ مِنَ الْكُفْرِ أَيْضاً ، ثُمَّ نَقَلَ الْقُرْطُبِيُّ
عَنِ الْعُلَمَاءِ حَمْلَ النَّهْيِ الْوَارِدِ فِي الْخَبَرِ عَلَى الْكَرَاهَةِ
، وَقَالَ الَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّهُ عَلَى التَّحْرِيمِ فِي حَقِّ مَنْ
يُخَافُ عَلَيْهِ ذَلِكَ الِاعْتِقَادُ الْفَاسِدُ ، فَيَكُونُ إِقْدَامُهُ عَلَى
ذَلِكَ مُحَرَّماً ، وَالْكَرَاهَةُ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَعْتَقِدْ ذَلِكَ .
وَهُوَ تَفْصِيلٌ حَسَنٌ ، وَيُؤَيِّدُهُ قِصَّةُ ابن عُمَرَ رَاوِي
الْحَدِيثِ فِي النَّهْيِ عَنِ النَّذْرِ ؛ فَإِنَّهَا فِي نَذْرِ
الْمُجَازَاةِ" .
قلت : يريد بالقصة ما أخرجه الحاكم (4 / 304)
مِنْ طريقِ فُلَيْحِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْحَارِثِ :
"أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ
عُمَرَ وَسَأَلَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي كَعْبٍ يُقَالُ لَهُ مَسْعُودُ بْنُ عَمْرٍو
: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ ! إِنَّ ابْنِي كَانَ بِأَرْضِ فَارِسَ فِيمَنْ
كَانَ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِاللَّهِ ، وَإِنَّهُ وَقَعَ بِالْبَصْرَةِ
طَاعُونٌ شَدِيدٌ ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ ؛ نَذَرْتُ : إِنِ اللَّهُ جَاءَ
بِابْنِي أَنْ أَمْشِيَ إِلَى الْكَعْبَةِ ، فَجَاءَ مَرِيضاً ، فَمَاتَ ، فَمَا
تَرَى ؟ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ : أَوَلَمْ تُنْهَوْا عَنِ النَّذْرِ ؟! إِنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ
: (النَّذْرُ لاَ يُقَدِّمُ شَيْئاً وَلَا يُؤَخِّرُهُ ، فَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ
بِهِ مِنَ الْبَخِيلِ) ، أَوْفِ بِنَذْرِكَ" .
وقال الحاكم :
"صحيح على شرط الشيخين" . ووافقه الذهبي .
وبالجملة ؛ ففي الحديث تحذيرٌ
للمسلم أن يَقْدِمَ على نذر المجازاة ؛ فعلى الناس أن يعرفوا ذلك حتى لا يقعوا في
النهي وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً ! . انتهى من "الصحيحة" .
قيّده ونقله /
أبو فريحان جمال بن فريحان الحارثي .
4 / 3 / 1425ه