الخميس، 22 سبتمبر 2016

المفهوم الصحيح لحب الوطن في الإسلام









بسم الله الرحمن الرحيم


 السلام عليكم ورحمة الله وبركاته


 كتبت هذا المقال مشاركة مني بمناسبة اليوم الوطني ، فلقد رأيت الناس بين جافٍ وغالٍ في حب الوطن ، فمنهم من قال عنه الوثن مبالغة في الذم ، ومنهم من جعل الولاء له مطلقاً إفراطاً ، وإنما الولاء لله تعالى ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .


 


قال شيخنا الإمام ابن باز :


" الواجب الولاء لله ولرسوله بمعنى أن يوالي العبد في الله ويعادي في الله وقد يكون وطنه ليس بإسلامي فكيف يوالي وطنه أما إن كان وطنه إسلاميا فعليه أن يحب له الخير ويسعى إليه لكن الولاء لله لأن من كان من المسلمين مطيعا لله فهو وليه ومن كان مخالفا لدين الله فهو عدوه وإن كان من أهل وطنه وإن كان أخاه أو عمه أو أباه أو نحو ذلك فالموالاة في الله والمعاداة في الله .


أما الوطن فيُحب إن كان إسلامياً وعلى الإنسان أن يشجع على الخير في وطنه وعلى بقائه إسلاميا وأن يسعى لاستقرار أوضاعه وأهله وهذا هو الواجب على كل المسلمين" .


 


 وزادني همة في البحث أني حضرة خطبة الجمعة 19 / 8 / 1426هـ فأجاد صاحبها فشمرت وكتبت ما سترونه مسطراً ، والله من وراء القصد .


وما توفيقي إلا بالله .


 أبو فريحان


 20 / 8 / 1426هـ


 


المفهوم الصحيح لحب الوطن في الإسلام


 


الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده .


أما بعد:


فقد شط أناس وأحجم آخرون في حب أوطانهم، فالبعض يرى أن حب الوطن من أركان الإيمان وغلا فيه وأزبد وأرعد فمن لم يحب وطنه كما يريد هو جعله خارجاً عن الإسلام وطريقة المسلمين.


والبعض الآخر، رأى أن حب الوطن شركٌ ووثنية ، وبين هذا وذاك يأتي أهل الإنصاف وأهل العقل؛ الذين ينظرون بنور الإيمان وينهلون من الوحيين ولا يحيدون عنهما ـ كتاب الله وسنة نبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم ـ فأقول:


 


وباختصار وقبل التفصيل ؛ الحب لا يكون إلا للوطن المسلم ولاءً ومحبة .


 


الكلُّ يعلم أن لكل ذي نفسٍ وطناً ومأوى، فـ"قرية النمل موضع اجتماعهن والعرب تفرق في الأوطان بين الأسماء فيقولون وطن الإنسان، وعطن الإبل، وعرين الأسد، وكناس الظبي، ووجار الذئب والضبع، وعش الطائر، وكور الزنابير، ونافقاء اليربوع، وقرية النمل". "كشف المشكل" لابن الجوزي (3 /363)،وانظر "الفتح" (6 /358).


والوطن: منزل إقامة الإنسان ومقره؛ ولد به أو لم يولد، وهو مكان الإنسان ومحله.


ويقال: الوطن الأصلي ويسمى بالأهلي، ووطن الفطرة هو مولد الرجل، وكذا البلد الذي هو فيه؛ ولد فيه أو لم يولد، ولكن قصد التعيش فيه لا الإرتحال عنه.


قال ابن جُماعة في "المنهل الراوي": "قال الحاكم راويا عن ابن المبارك: إن من أقام في مدينة أربع سنين فهو من أهلها، وروي ذلك عن غيره أيضاً. والله أعلم".


والوطنية: صفة، وهي: العاطفة التي تُعبِّر عن ولاء المرء لبلده، والمقصود هنا أن يكون ولاء المرء المسلم لبلده من أجل كلمة التوحيد الظاهرة، وشرائع الدين المطبقة.


بمعنى: أن الوطنية؛ هي: قيام الفرد المسلم بحقوق وطنه المشروعة في الإسلام


فالأصل في الإنسان أن يحب وطنه ويتشبث بالعيش فيه، ولا يفارقه رغبة عنه، ومع هذا فلا يعني هذا انقطاع الحنين والحب للوطن، والتعلق بالعودة إليه، كما كان بلال رضي الله عنه يتمنى الرجوع إلى وطنه مكة.


وحب الوطن غريزة متأصلة في النفوس، تجعل الإنسان يستريح إلى البقاء فيه، ويحن إليه إذا غاب عنه، ويدافع عنه إذا هُوجم، ويغضب له إذا انتُقص.


وأخرج الترمذي، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي في "الشعب"، والمقدسي في "المختارة" بسندٍ صحيح.


من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال في حق مكة عند هجرته منها: (ما أطيبك من بلدة وأحبك إلي ولولا أن قومك أخرجوني ما سكنت غيرك).


وحيث أن حب الوطن غريزة في الإنسان، فقد دعا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ربه بأن يرزقه حب المدينة لما انتقل إليها.


فقد أخرج الشيخان من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ( اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد).


ومن حنين الإنسان إلى بلده، أنه إذا غاب عنها وقدم عليه شخص منها سأله عنها، يتلمس أخبارها، فهذا نبينا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسأل أُصيل الغفاري عن مكة لما قدم عليه المدينة، فقد أخرج الأزرقي في "أخبار مكة" عن ابن شهاب قال: قدم أصيل الغفاري قبل أن يضرب الحجاب على أزواج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فدخل على عائشة رضي الله عنها فقالت له: يا أصيل!كيف عهدت مكة؟ قال: عهدتها قد أخصب جنابها، وابيضت بطحاؤها، قالت: أقم حتى يأتيك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلم يلبث أن دخل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ  ، فقال له: (يا أصيل! كيف عهدت مكة؟) قال: والله عهدتها قد أخصب جنابها، وابيضت بطحاؤها، وأغدق إذخرها، وأسلت ثمامها، وأمشّ سلمها، فقال: (حسبك يا أصيللا تحزنا).


وأخرجه باختصار أبو الفتح الأزدي في كتابه "المخزون في علم الحديث"، وابن ماكولا في "الإكمال". وفيه:


قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (ويهاً يا أصيل! دع القلوب تقر قرارها)، وهذه الجملة من الحديث فيها ضعف، وأوردها ابن حجر في "الإصابة" (1 /92).


وهذا كليم الله موسى عليه السلام حنّ إلى وطنه بعد أن خرج منها مجبراً قال تعالى: ]فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَاراً قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ[ . (القصص : 29 ).


قال ابن العربي في "أحكام القرآن":


"قال علماؤنا لما قضى موسى الأجل طلب الرجوع إلى أهله وحنّ إلى وطنه وفي الرجوع إلى الأوطان تقتحم الأغرار وتركب الأخطار وتعلل الخواطر ويقول لما طالت المدة لعله قد نسيت التهمة وبليت القصة".


وحب الوطن يجعل الإنسان يدفع عنه العدو إذا هاجمه أو أخرجه العدو منه، والله سبحانه يحكي عن المؤمنين فيقول الله تعالى:


]قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا[.


(البقرة : 246 ).


ومما أنشده رفيق بن جابر وهو من شعراء الأندلس في تنبيه الغير من الكلام في أوطان من ينزل عندهم، وأنهم لا يقبلون في أوطانهم قدحاً:


 


لا تعاد الناس في أوطانهم


قلَّما يُرعى غريب الوطن


 


 


فبهذه الآيات والأحاديث والآثار؛ يُعلم منها أن "حب الوطن" أمراً طبيعياً ومشروعاً أيضاً.


ويؤكد مشروعيته ما أخرجه البخاري أن بلالاً قال:


" اللَّهُمَّ الْعَنْ شَيْبَةَ بنَ رَبِيعَةَ، وعُتْبَةَ بنَ رَبِيعَةَ، وأُمَيَّةَ بنَ خَلَفٍ كمَا أخْرَجُونَا مِنْ أرْضِنَا إلَى أرْضِ الوَباءِ".


قال ابن حجر في "الفتح":


"وقوله: "كما أخرجونا" أي: أخْرِجْهم من رحمتك كماأخرجونا من وطننا".


فلم ينكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على بلال ذلك، بل دعا الله أن يحبب إليهم المدينة فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أللَّهُمَّ حَبِّبْ إلَيْنَا المَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أوْ أشَدُّ).




وكان بلال ينشد ويقول:




ألاَ لَيْتَ شَعْرِي هَلْ أبِيتَنَّ لَيْلَةً


بِوَادٍ وَحَوْلِي إذْخِرٌ وجَلِيلٌ


 


وهَلْ أرِدَنْ يَوْما مِياهَ مَجَنَّةٍ


وهَلْ يَبْدُونْ لِي شَامَةٌ وطَفِيلُ


 


ومما يدل على مشروعية حب الوطن كما قرره الأئمة الأعلام على ما أخرجه البخاري، وأحمد وغيرهما من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: "كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا قدم من سفر فأبصر درجات المدينة أوضع ناقته، وإن كانت دابة حركها" قال أبو عبد الله: زاد الحارث بن عمير عن حميد: "حركها من حبها".


وقوله: "أوضع ناقته": يقال: وضع البعير، أي: أسرع في مشيه، و أوضعه راكبه، أي: حمله على السير السريع.


قال ابن حجر في "الفتح" ، والعيني في "عمد القارئ:


"وفي الحديث دلالة على فضل المدينة ، وعلى مشروعية حب الوطن والحنين إليه".


قال القارئ في قوله:


(حركها من حبها)؛ أي" حرك دابته بسبب حب المدينة، وهذا التعليق وصله الإمام أحمد".


وفي الحديث عند أحمد بسند صحيح عن علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: "لما قدمنا المدينة أصبنا من ثمارها، فاجتويناها، وأصابنا بها وعك وكان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتخبر عن بدر .."


قال ابن عبد البر في "الاستذكار":


"وفيه بيان ما عليه أكثر الناس من حنينهم إلى أوطانهم وتلهفهم على فراق بلدانهم التي كان مولدهم بها ومنشأهم فيها".


"فاجتويناها": أي؛ أصابنا الجوى، وهو المرض وداء الجوف إذا تطاول، وذلك إذا لم يوافقهم هواؤها واستوخموها.


"يتخبر": أي؛ يتعرف، إذا سأل عن الأخبار ليعرفها.


ومما جاء عن السلف وحنينهم إلى أوطانهم، ما أخرجه أبو نعيم في "الحلية"، أن إبراهيم بن أدهم قال:


"ما قاسيت فيما تركت شيئا أشد علي من مفارقة الأوطان".


وقال ابن بطوطة: "…فعند ذلك قصدت القدوم على حضرته ... مع ما شاقني من تذكر الأوطان،والحنين للأهل والخلان، والمحبة إلى بلادي التي لها الفضل عندي على البلدان".


وأنشد:




بلاد بها نيطت علي تمائمي


وأول أرض مس جلدي ترابها


 


وقال الرافعي القزويني في "أخبار قزوين":


ولو لا نزوع النفس إلى مسقط الرأس ودائرة الميلاد لم ينـزل ]إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ[.


وقد صدق ابن الرومي حيث قال:




وحبب أوطان الرجال إليهم


مأرب قضاها الفؤاد هنالكا


 


إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم


عهود الصبى فيها فحنوا لذاكا


 


وجاءت أشعار السلف في التعبير عن حبهم لأوطانهم، وشغفهم وحنينهم إليها تترا، فهذا أبو بكر العلاف أنشد يقول:




كما تُؤلف الأرض التي لم يكن بها


هواء ولا ماء سوى انها وطن


 
وأنشد علي بن محمد التنوخي:




ما كنت أول مشتاق إلىوطن


بكى وحن إلى أحبابه وصبا


 


وأنشد أبو الفرج محمد بن عبد الواحد الدارمي البغدادي:




ولي وطن لا يرى مثله


يقر بذلك لي من عرف




وذكر أبو الطيب الوشاء قال أنشدت لموسى بن عبد الملك وكان حاجاً فلما قفل وصار بالثعلبية قال:


أيقنت لي وطن أحب


بجمع شمل واتفاق


 


وهذه ميسون بنت بحدل الكلبية أم يزيد زوج معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه انشأت تقول وقد حنت إلى وطنها:




خشونة عيشتي في البدو أشهى


إلى نفسي من العيش الطريف


 


فما أبغي سوى وطني بديلا


فحسبي ذاك من وطن شريف


 


ومفارقة الأوطان، يكون إما إيذاء على الإيمان، أو عقوبة وخذلان، ففراق الأوطان لأيِّن من السببين؛ معادلة لقتل النفس. قال تعالى: ]وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ[ . (النساء: 66).


أما فراق الأوطان بسبب الإيذاء على الإيمان، فهو خروج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من مكة بسبب مضايقة كفار قريش له ولمن أسلم آنذاك من قريش، وقد تقدم قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (...ولولا أن قومك أخرجوني ما سكنت غيرك).


وأيضاً فراق المهاجرين الأُوَل لموطنهم مكة، "فقد وصف الله تعالى المهاجرين الأولين بقوله: ]إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَهَاجَرُواْ .. [.


قوله: ]وَهَاجَرُواْ[ ، يعني: فارقوا الأوطان،وتركوا الأقارب والجيران؛ في طلب مرضاة الله، ومعلوم أن هذه الحالة حالة شديدة قال تعالى: ]أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُمْ[ .


جعل ـ الله تبارك وتعالى ـ مفارقة الأوطان؛ معادلة لقتل النفس، فهؤلاء في المرتبة الأولى: تركوا الأديان القديمة لطلب مرضاة الله تعالى، وفي المرتبة الثانية: تركوا الأقارب والخلان والأوطان والجيران لمرضاة الله تعالى".


"التفسير الكبير" للرازي.


وأما أنْ يكون فراق الأوطان عقوبة؛ فالعقوبة على نوعين: نوع عذاب وهو على الكفار، فقد أخبر الله تبارك وتعالى عن هذا الصنف فقال عز وجل: ]وَلَوْلَا أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاء لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ[  (الحشر : 3 ).


"معنى (الجلاء) في اللغة: الخروج من الوطن والتحول عنه، والجلاء نوع من أنواع التعذيب". "التفسير الكبير".


وقال ابن عبد البر في "التمهيد": "هذا كله وما أشبهه من العذاب والله أعلم".


والنوع الآخر من العقوبة بمفارقة الأوطان، هو ردع للمسلم وزجر له، كي لا يعود للمخالفة، قال تعالى:


]إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ ... أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ[ .


(المائدة : 33 ).


أي: "يطرد من بلد إلى بلد بحيث لا يتمكنون من القرار في موضع".


"واختار ابن جرير أن المراد بالنفي في هذه الآية أن يخرج من بلده إلى بلد آخر فيسجن فيه وروي نحوه عن مالك أيضاً، وله اتجاه؛ لأن التغريب عن الأوطان نوع من العقوبة كما يفعل بالزاني البكر وهذا أقرب الأقوال لظاهر الآية". "أضواء البيان" للشنقيطي.


وكما غرب عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه نصر بن حجاج إلى البصرة بسبب أنه لجماله افتتن بعض النساء به.


ومما سبق تبين لنا أن "حب الوطن"؛ غريزة متأصلة في نفوس الناس على اختلاف أديانهم ومناهجهم وأجناسهم.


و"حب الوطن" أمر مشروع بالأدلة من الكتاب والسنة والآثار عن السلف الصالح، التي سقنا بعضاً منها.


 


و"حب الوطن" أمر مشروع بالأدلة من الكتاب والسنة والآثار عن السلف الصالح، التي سقنا بعضاً منها.


 


فإذا تقرر هذا؛ فما العمل الواجب على المسلمين عموماً، وعلى أبناء هذه البلاد ـ المملكة العربية السعودية ـ على وجه الخصوص، أن يقوموا به تجاه دولة بها من الخصائص والمزايا التي تفوق باقي البلدان على هذه البسيطة ؟


فهذه الدولة بها قبلة المسلمين، ومسجد سيد ولد آدم أجمعين، وبها المشاعر المقدسة، أضف أنها الدولة الوحيدة على البسيطة التي خلَت من الأضرحة والمشاهد والمزارات، وهي الوحيدة التي تطبق شرع الله في جميع أمورها وأحوالها، والوحيدة التي بها مجلساً للشورى، وهيئةَ أمرٍ بالمعروف ونهيٍ عن المنكر، وهي الدولة الوحيدة التي تُغلِق فيها المتاجر أبوابها أوقات الصلوات المكتوبة، ـ فلله الحمد والمنة ـ، فمَثَل هذه الدولة المباركة بين دول العالم ـ اليوم ـ أجمع؛ كمثل شعرة بيضاء في جنب ثور أسود، أو شعرة سوداء في جنب ثور أبيض ، لتميُّزها الواضح الذي لا يخفى إلا على العميان.


 


فأعود وأُجيب على التساؤل المطروح ، فأقول:


الواجب على أبناء هذا الوطن خاصة؛ محبته، و التكاتف بين أفراد مجتمعه والتلاحم فيما بينهم، فإذا كنا لبنة واحدة؛ عجز عنا العدو، وباء طمعه بالخسران.


ومن مقتضى محبة الوطن على أهله؛ القيام بالواجبات المنوطة على كل فرد بأمانة وإخلاص، على اختلاف المواقع والمراكز والمناصب والرُتب، بدأً بالبواب وانتهاءً بالملك.


ومن مقتضى محبة الوطن؛ المحافظة على ثرواته وخيراته، وعدم العبث بها وهدر أموال بيت المال، بحجة أن هذا المال للدولة؛ وأنا ابن الدولة، لا.


أنت مؤتمن على كل ما يُوكَل إليك من أعمال، وراع في وزارتك، أو إدارتك، أو مكتبك، وأنت راع لمن ولّاك ولي الأمر عليهم من العاملين، يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:


(كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ...). متفق عليه.


وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن الله سائل كل راع عما استرعاه أحفظ ذلك أم ضيع، حتى يسأل الرجل عن أهل بيته ) . "صحيح ابن حبان".


ثم إن العجب لا ينقض؛ من أناس وُلِدوا وترعرعوا ونشأوا، وتربوا وعاشوا على أرض هذا الوطن، وأكلوا من خيراته، وشربوا من مائه، وتعلموا العلوم باختلاف التخصصات في مدارسه ومعاهده وجامعاته، ثم يخرجون على المسلمين، فيقتلون إخوانهم، ويدمرون ممتلكات وطنهم و مواطنيهم، بالتفجير، الذي هو من عمل الخواج المارقين.


والبعض لا يَكِنُّ لوطنه حباً، بل يستوي عنده من يذم وطنه ومن يثني عليه، ولا يفرق بين قادح ومادح، وهادم وبانٍ، بل والأعظم من هؤلاء، من يُلبِّس على الناس بنشر الأكاذيب المختلقة، ونشر الرذيلة عن وطنه، وينسى الفضائل، بل ويسترها.


فإنا لله وإنا إليه راجعون.


ومن لوازم محبة هذا الوطن؛ احترام ولي الأمر ومحبته، وكراهة الكلام فيه، وبغض من يتكلم فيه ويغتابه ويبغضه.


ومن لوازم محبة هذا الوطن؛ عدم الخروج على ولي الأمر وإن جار وإن ظلم، والسمع له في المنشط والمكره، قال الله تعالى: ]يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ[.


وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( إنْ أُمِّر عليكم عبد حبشي مجدّع، فاسمعوا، وأطيعوا ما قادكم بكتاب الله). رواه مسلم.


فالحمد لله؛ أنْ ولاة أمرنا في هذه البلاد ـ المملكة العربية السعودية ـ يقودوننا ويَسُوسُونا بكتاب الله وسنة نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.


قال r: (من أكرم سلطان الله – تبارك وتعالى – في الدنيا؛ أكرمه الله يوم القيامة، ومن أهان سلطان الله – تبارك وتعالى – في الدنيا؛ أهانه الله يوم القيامة). رواه أحمد.


و قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اسمع وأطع، في عسرك ويسرك، ومنشطك ومكرهك، وأثرة عليك، وإن أكلوا مالك، وضربوا ظهرك ). أخرجه ابن أبي عاصم في "السنة".


واعلموا عباد الله أن السمع والطاعة للأمير في المعروف؛ عبادةٌ يُتقربُ بها إلى الله تعالى، لأن الذي أمرك بالصلاة والزكاة وبقية أركان الإسلام وفرائضه وواجباته؛ هو الله سبحانه وتعالى الذي أمرك بطاعة السلطان واحترامه، ومحبته، وعدم الخروج عليه، لا باللسان ولا بالسنان، وعدم إذلاله وتجريحه.


قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (من فارق الجماعـة، واستذل الإمارة لقي الله – عز وجل – ولا وجه له عنده، وفي رواية: ولا حجة له ).


أخرجه احمد، والحاكم.


ومن لوازم محبة الوطن، أن يشارك الجميع في بنائه، وتعليم أبنائه وتوجيههم الوجهة الشرعية المستقاة من الكتاب والسنة، فليس المعلم هو المسئول عن التعليم والتوجيه فحسب، بل الداعية عليه مسئولية في ذلك، وإمام المسجد كذلك، وخطيب الجمعة، وصاحب القلم في الصحف والمجلات، وأصحاب التآليف، والعلماء؛ لهم الدور الأكبر، لأن الناس يثقون بهم أكثر، ولن أنسى دور التاجر، إذْ المال له النصيب الأوفر في بناء الأوطان، ونشر الكلمة الطيبة، وذلك بالمساهمة في طبع ذاك الكتاب، أو هذه المطوية، أو دعم مشروع خيري مصرح به، وأما دور المعلم على اختلاف المراحل، فهو دور لا تُعد ولا تحصى أركانه ودرجاته، فعلى المعلمين في المداس والجامعات أن يتقوا الله، وأن يغرسوا في أبناء الوطن: "حب الوطن المشروع" وليس المغْلُو فيه.


وأمّا دور رجال الأمن باختلاف أقسامهم، وتنوع وحداتهم، جواً وبراً وبحراً، فعليهم يُعوِّل المجتمع بعد الله تعالى في حفظ الأمن والاستقرار؛ الشيء الكبير، فهم يعتبرون حُرّاس العقيدة، وحراس الفضيلة، وحماةً للوطن من كل عابث وحاقد وحاسد، فالله الله يا رجال الأمن في أن يُؤتى الإسلام من قبلِكم، فقد عرفنا لكم مواقف عدة؛ تُشكرون عليها، وتستحقون عليها وسام المحبة والتقدير من مجتمعكم أجمع، بقمعكم الخوارج المارقين على الدين والدولة، وفي إبطال أغلب مخططاتهم الإجرامية في أوكارها وقبل وقوعها، فلكم من إخوانكم في هذا المجمع ـ السعودي ـ كل تحية وكل سلام.


وأما صاحب الدور الأول في تأصيل الانتماء للوطن ومحبته المحبة الشرعية لدى الناشئة، فهي الأسرة، التي فيها نشأ ونمى وترعرع، فعليها الحمل الثقيل والعبىء الأكبر في تلقين الأبناء الألفة، والولاء لهذا الوطن، أو ذاك.


وكما أن محبة الأوطان مشروعة، إلا أن الغلو في محبتها ـ كما يفعله الإِفْرِنْج ومن تشبه بهم من العرب والمسلمين ـ، لا تجوز، بل هي وثنية.


فنحن أمة وسطاً في جميع جوانب الدين، بل نحب وطننا حباً شرعياً، يكون تحت مظلة محبتنا لديننا، لما نرى فيه من إعلاء لكلمة التوحيد من قبل حكامنا، ونشرهم للدعوة السلفية، وصلاحهم، واحترامهم وإجلالهم للعلماء، وسعيهم للخير في كل قطرٍ في المعمورة، نسأل الله المزيد من التوفيق والخير.


وهنا ثمّ تنبيه، من الواجب التعريج عليه تديناً، وهي مقولة منتشرة ومشتهرة بين الناس، وعلى ألسنة العوام، قوله: "حب الوطن من الإيمان"، وينسبونها إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهي ليس بحديث، بل هي كذب وافتراء على النبي الكريم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ  ، وإليك أقوال أهل الفن والاختصاص من المحققين أعلام الدجى، أهل الحديث.


قال الصاغاني: فمن الأحاديث الموضوعة قولهم: (فذكره ورقمه 81).


قال الزركشي لم أقف عليه.


وقال السيد معين الدين الصفوي: ليس بثابت.


وقيل: إنه من كلام بعض السلف.


قال السخاوي: لم أقف عليه.


وقال الملا القاري: موضوع.


وقال الحوت البيروتي الشافعي: حديث موضوع.


وقال الغزي العامري: ليس بحديث.


وقال خاتمة المحدثين وإليه انتهى علم هذا الفن الشريف في هذا العصر، المحدث الألباني في "الضعيفة": موضوع، كما قال السخاوي وغيره.


 


كتبه


أبو فريحان جمال بن فريحان الحارثي


20 / 8 / 1426هـ


 


ثم تحول هذا المقال إلى فكرة كتاب ؛ فزدتُّ فيه بعض أقول علمائنا المعاصرين الكبار كابن باز والعثيمين والفوزان ، ونحو ذلك ، وطبع والحمد لله . اللهم انفعني به .