الأحد، 14 أغسطس 2016

مفهوم قولهم : الْأَقَارِبُ عَقَارِبٌ

 
 
 
مفهوم قولهم : الْأَقَارِبُ عَقَارِبٌ
 
 
 
سُئلتُ عن أثر الإمام ابن المبارك .
 
 
 
قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ :
 
"الْأَقَارِبُ عَقَارِبٌ ، خَيْرُهَا أَبْعَدُهَا ، وَشَرُّهَا أَقْرَبُهَا" .
 
"المنتخب من معجم شيوخ السمعاني" (ص 1753) .
 
 
 
قلتُ : إنْ صح هذا الأثر عن الإمام ابن المبارك ؛ فهو لا يعني التحريض على قطيعة الرحم أبداً ، ولا ينبغي أن يُفهم منه ذلك ، إنما يُخبر عن شيء يُصدِّقه الواقع المرير الذي يقع بين الأقارب من نفرة وأذية .
 
 
ولعلي قرأته لحكيم العرب أكثم بن صيفي التميمي – الذي أدرك زمن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يُسلم ولكنه أمر قومه بالإسلام واتباع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من زمنٍ بعيد جداً ولا أتذكر المرجع الآن .
ثم وجدته لابن صيفي بلفظ :
"تباعدوا في الدّيار تقاربوا في المودّة" .
"عيون الأخبار" (3 /100) وفي طبعة (3 / 88) ، و "العقد الفريد" (2 /176) لابن عبد ربه (ت 328هـ) .
 
 
 
ولا ينافي وصفهم بالعقارب في الأثر - لما يحدث منهم من إيذاء متعمد او غير متعمد أو حسد أو غبطة وغير ذلك ؛ والواقع يصدق ذلك ويكذبه .
 
أقول : لا ينافي ذلك مع أمر الشارع الحكيم بالإحسان إلي الأقارب والأرحام ، والأمر بطيب المعاملة والبر بهم ، وفي الحديث  :
 
 
 
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ :
 
"أَنَّ رَجُلاً قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ! إِنَّ لِي قَرَابَةً أَصِلُهُمْ ؛ وَيَقْطَعُونِي ، وَأُحْسِنُ إِلَيْهِمْ ؛ وَيُسِيئُونَ إِلَيَّ ، وَأَحْلُمُ عَنْهُمْ ؛ وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ . فَقَالَ : (لَئِنْ كُنْتَ كَمَا قُلْتَ ؛ فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمُ الْمَلَّ ، وَلاَ يَزَالُ مَعَكَ مِنَ اللَّهِ ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ) .
 
 
رواه البخاري في "الأدب المفرد (52) ، ومسلم في "صحيحه" (2558) – واللفظ له - ، وابن حبان في "صحيحه" (450) .
 
 
 
(الْمَلَّ) بفتح الميم وتشديد اللام : هو الرماد الحار .
 
 
 
 
ففي الحديث : الاعتراف ضمناً أن الأقارب يسيئون أحياناً .
 
 
ثانياً : لم ينف النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ  الإساءة من الأقارب حين قال الرجل : " وَيُسِيئُونَ إِلَيَّ " .
 
 
ثالثاً : فيه التأكيد على الإحسان إليهم مع إساءتهم بثبوت الأجر للواصل .
 
 
 
ثم إني نظرت فيما نظرت في بعض الآثار فوجدت هناك ما يُشير إلى أن الإساءةِ من الأقارب تقع أحياناً ؛ فلذا يُستحسن أن لا يتجاورون كثيراً ولكن تواصلهم مطلوب ، وهو ما رُوي عن عمر بن الخطاب :
 
"الأقارب يَتَزَاوَرُونَ ولا يتجاورون" .

ثم وجدته بلفظ :
عن عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنه كتب إلى أبي موسى الأشعري رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ :
"أن مر ذوي القرابات أن يتزاوروا ولا يتجاوروا" .

"الأمثال في الاسلام" (ص 148) لأبي عُبيد (ت 224هـ) ، و "عيون الأخبار" (3 /100) لابن قتيبة (ت 276هـ) .
 
 
 

لأنه من المعروف أنّ تجاور الأقارب يحصل فيه تنافس وتناحر وحسد وتنافر ، ويحصل ذلك بِسَبَب الْإِعْجَاب بالفضائل بين الأخوة وَبني الْأَعْمَام بحسد بَعضهم بَعْضاً ، ويحصل التنافر أيضاً بسبب خصومة الأولاد "الأطفال" بعضهم مع بعض ؛ فترتفع الخصومة إلى ما بين الكبار ؛ وهو مجربٌ ومشاهد على أرض الواقع ، فكم من إخوة تباغضوا وتباعدوا بسبب مشاكل الأولاد ومشاكل النساء بينهن بين .
فحمايةً للقلوب من التنافر ؛ يُنصح بعدم التجاور ، حتى تكون النفوس اشوق عندما تكون الأجساد أبعد عن بعض ، وهذه نظرية وقاعدة .
 
قَال الأَصمَعي : "إن ذوي القَرابَة إذا تراخت ديارهم ؛ كان أحْرَى أن يتحابوا ، وإذا تدانوا ؛ تحاسدوا وتباغضوا" .

"مجمع الأمثال" (2 /68) لأبي الفضل النيسابوري (ت 518هـ) .
 
 
وأنشد بعضهم :
 
أقارب كالعقارب في أذاها ... فلا تُولَع بعمّ أو بخال
 
فكم عمٍّ يجيء الغمّ منه ... وكم خال عن الخيرات خال
 
 
 
 
وقال بعض السلف :
 
"الأقارب عقارب وأمتُّهم بك رَحِماً أشدُّهم بك لَدْغا" .
 
"البصائر والذخائر" (1 /243) لأبي حيان التوحيدي (ت 400هـ) .
 
 
 
قال طرفة بن العبد :
 
وَظُلمُ ذَوِي القربى أشَدُّ مَضاضةً ... على المرءِ مِنْ وَقْعِ الحُسامِ المُهنَّدِ
 
 
 
وقال آخر :
 
ولِلذُّلِّ بين الأقربينَ مَضاضةٌ   ... والذُّلُّ ما بينَ الأباعدِ أرْوَحُ
 
وإذا أتَتْكَ مِن الرجالِ قَوَارِصٌ ... فسِهامُ ذِي القُربى القريبةِ أجْرَحُ
 
 
 
وهناك مثل شعبي عام ، يقول : خلك بعيد حُبّك يزيد .

قلتُ : ويؤيده الحديث :    ( زُرْ غِبَّاً تَزْدَدْ حُبّاً ) .

رواه الطبراني في "الكبير" وغيره (14756) . وحسنه الألباني لغيره في "صحيح الترغيب" (2583) .
 
 والله أعلم .


 
كتبه /
 
أبو فريحان جمال بن فريحان الحارثي .
 
السبت 10 / 11 / 1437هـ