مفهوم قولهم : الْأَقَارِبُ عَقَارِبٌ
سُئلتُ عن أثر
الإمام ابن المبارك .
قَالَ
ابْنُ الْمُبَارَكِ :
"الْأَقَارِبُ
عَقَارِبٌ ، خَيْرُهَا أَبْعَدُهَا ، وَشَرُّهَا أَقْرَبُهَا" .
"المنتخب من
معجم شيوخ السمعاني" (ص 1753) .
قلتُ : إنْ صح هذا الأثر
عن الإمام ابن المبارك ؛ فهو لا يعني التحريض على قطيعة الرحم أبداً ، ولا ينبغي
أن يُفهم منه ذلك ، إنما يُخبر عن شيء يُصدِّقه الواقع المرير الذي يقع بين
الأقارب من نفرة وأذية .
ولعلي قرأته لحكيم
العرب أكثم بن صيفي التميمي – الذي أدرك زمن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ولم يُسلم ولكنه أمر قومه بالإسلام واتباع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - من زمنٍ بعيد جداً ولا أتذكر المرجع الآن .
ثم وجدته لابن صيفي بلفظ
:
"تباعدوا
في الدّيار تقاربوا في المودّة" .
"عيون
الأخبار" (3 /100) وفي طبعة (3 / 88) ، و "العقد الفريد" (2 /176) لابن
عبد ربه (ت 328هـ) .
ولا ينافي وصفهم
بالعقارب في الأثر - لما يحدث منهم من إيذاء متعمد او غير متعمد أو حسد أو غبطة
وغير ذلك ؛ والواقع يصدق ذلك ويكذبه .
أقول : لا ينافي ذلك
مع أمر الشارع الحكيم بالإحسان إلي الأقارب والأرحام ، والأمر بطيب المعاملة والبر
بهم ، وفي الحديث :
عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ :
"أَنَّ رَجُلاً
قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ! إِنَّ لِي قَرَابَةً أَصِلُهُمْ ؛ وَيَقْطَعُونِي ،
وَأُحْسِنُ إِلَيْهِمْ ؛ وَيُسِيئُونَ إِلَيَّ ، وَأَحْلُمُ عَنْهُمْ ؛
وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ . فَقَالَ : (لَئِنْ كُنْتَ كَمَا قُلْتَ ؛ فَكَأَنَّمَا
تُسِفُّهُمُ الْمَلَّ ، وَلاَ يَزَالُ مَعَكَ مِنَ اللَّهِ ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا
دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ) .
رواه البخاري في
"الأدب المفرد (52) ، ومسلم في "صحيحه" (2558) – واللفظ له - ،
وابن حبان في "صحيحه" (450) .
(الْمَلَّ)
بفتح الميم وتشديد اللام : هو الرماد الحار .
ففي
الحديث : الاعتراف ضمناً أن الأقارب
يسيئون أحياناً .
ثانياً : لم ينف
النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الإساءة من الأقارب حين قال الرجل : " وَيُسِيئُونَ إِلَيَّ " .
ثالثاً : فيه التأكيد
على الإحسان إليهم مع إساءتهم بثبوت الأجر للواصل .
ثم إني نظرت فيما
نظرت في بعض الآثار فوجدت هناك ما يُشير إلى أن الإساءةِ من الأقارب تقع أحياناً ؛
فلذا يُستحسن أن لا يتجاورون كثيراً ولكن تواصلهم مطلوب ، وهو ما رُوي عن عمر بن
الخطاب :
"الأقارب يَتَزَاوَرُونَ
ولا يتجاورون" .
ثم وجدته بلفظ :
عن عمر بن الخطاب رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ أنه كتب إلى أبي موسى الأشعري رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ :
"أن مر
ذوي القرابات أن يتزاوروا ولا يتجاوروا" .
"الأمثال
في الاسلام" (ص 148) لأبي عُبيد (ت 224هـ) ، و "عيون الأخبار" (3
/100) لابن قتيبة (ت 276هـ) .
لأنه من المعروف أنّ تجاور
الأقارب يحصل فيه تنافس وتناحر وحسد وتنافر ، ويحصل ذلك بِسَبَب الْإِعْجَاب
بالفضائل بين الأخوة وَبني الْأَعْمَام بحسد بَعضهم بَعْضاً ، ويحصل التنافر أيضاً
بسبب خصومة الأولاد "الأطفال" بعضهم مع بعض ؛ فترتفع الخصومة إلى ما بين
الكبار ؛ وهو مجربٌ ومشاهد على أرض الواقع ، فكم من إخوة تباغضوا وتباعدوا بسبب
مشاكل الأولاد ومشاكل النساء بينهن بين .
فحمايةً للقلوب من
التنافر ؛ يُنصح بعدم التجاور ، حتى تكون النفوس اشوق عندما تكون الأجساد أبعد عن
بعض ، وهذه نظرية وقاعدة .
قَال
الأَصمَعي : "إن ذوي القَرابَة إذا تراخت ديارهم ؛ كان أحْرَى أن يتحابوا ، وإذا
تدانوا ؛ تحاسدوا وتباغضوا" .
"مجمع
الأمثال" (2 /68) لأبي الفضل النيسابوري (ت 518هـ) .
وأنشد بعضهم :
أقارب كالعقارب في
أذاها ... فلا تُولَع بعمّ أو بخال
فكم عمٍّ يجيء الغمّ
منه ... وكم خال عن الخيرات خال
وقال بعض السلف :
"الأقارب عقارب
وأمتُّهم بك رَحِماً أشدُّهم بك لَدْغا" .
"البصائر
والذخائر" (1 /243) لأبي حيان التوحيدي (ت 400هـ) .
قال طرفة بن العبد :
وَظُلمُ ذَوِي القربى
أشَدُّ مَضاضةً ... على المرءِ مِنْ وَقْعِ الحُسامِ المُهنَّدِ
وقال آخر :
ولِلذُّلِّ بين
الأقربينَ مَضاضةٌ ... والذُّلُّ ما بينَ
الأباعدِ أرْوَحُ
وإذا أتَتْكَ مِن
الرجالِ قَوَارِصٌ ... فسِهامُ ذِي القُربى القريبةِ أجْرَحُ
وهناك مثل شعبي عام ، يقول : خلك بعيد حُبّك يزيد .
قلتُ : ويؤيده الحديث : ( زُرْ غِبَّاً
تَزْدَدْ حُبّاً ) .
رواه الطبراني في "الكبير" وغيره (14756)
. وحسنه الألباني لغيره في "صحيح الترغيب" (2583) .
والله أعلم .
كتبه /
أبو فريحان جمال بن فريحان الحارثي .
السبت 10 / 11 / 1437هـ