ليس كل ما في كتب التاريخ والسير صحيح ،
مع بيان ضعف قصة الغناء بطلع البدر علينا
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
: ( إِنْ كُنْتِ نَذَرْتِ فَاضْرِبِي وَإِلَّا فَلَا ) .
"الصحيحة" (2261) .
{ مناسبة الحديث } :
عَنْ
بُرَيْدَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ :
"خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ ، فَلَمَّا انْصَرَفَ ، جَاءَتْ
جَارِيَةٌ سَوْدَاءُ ، فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ! إِنِّي كُنْتُ نَذَرْتُ
إِنْ رَدَّكَ اللَّهُ سَالِماً أَنْ أَضْرِبَ بَيْنَ يَدَيْكَ بِالدُّفِّ
وَأَتَغَنَّى . فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (فَذَكَرَهُ)
، فَجَعَلَتْ تَضْرِبُ ، فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ وَهِيَ تَضْرِبُ ، ثُمَّ دَخَلَ
عَلِيٌّ وَهِيَ تَضْرِبُ ، ثُمَّ دَخَلَ عُثْمَانُ وَهِيَ تَضْرِبُ ، ثُمَّ دَخَلَ
عُمَرُ ، فَأَلْقَتْ الدُّفَّ تَحْتَ اسْتِهَا ، ثُمَّ قَعَدَتْ عَلَيْهِ ،
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(إِنَّ الشَّيْطَانَ لَيَخَافُ مِنْكَ يَا عُمَرُ ! إِنِّي كُنْتُ جَالِساً
وَهِيَ تَضْرِبُ ، فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ وَهِيَ تَضْرِبُ ، ثُمَّ دَخَلَ عَلِيٌّ
وَهِيَ تَضْرِبُ ، ثُمَّ دَخَلَ عُثْمَانُ وَهِيَ تَضْرِبُ ، فَلَمَّا دَخَلْتَ
أَنْتَ يَا عُمَرُ أَلْقَتْ الدُّفَّ) .
قَالَ شيخُنا الألباني
في "الصحيحة" (5/331) :
( تنبيـه ) : جاء عقب حديث
بريدة في "موارد الظمآن" (493 -494 /2015 )
زيادة :
وقالت
:
أشــرق
البــدر علينـا
|
مــن
ثنيــَّات الـوداع
|
وجـب
الشكــر علينـا
|
مــا
دعــا للــه داع
|
وذكر
محققه الشيخ محمد عبدالرزاق حمزة رحمه الله تعالى في الحاشية أن هذه الزيادة من
الهامش ، وبخط يخالف خط الأصل . وكم كنت أتمنى على الشيخ رحمه الله أن لا يطبعها
في آخر الحديث ، وأن يدعها حيث وجدها : "في الهامش" ، وأن يكتفي
بالتنبيه عليها في التعليق ، خشية أن يغتر بها بعض من لا علم عنده ، فإنها زيادة
باطلة ، لم ترد في شيء من المصادر المتقدمة ، ومنها "الإحسان" الذي هو
"صحيح ابن حبان" مرتباً على الأبواب الفقهية ، بل ليس لها أصل في شيء من
الأحاديث الأخرى ؛ على شهرتها عند كثير من العامة ، وأشباههم من الخاصة أن النبي صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استُقْبِل بذلك من النساء والصبيان حين دخل المدينة في
هجرته من مكة ، ولا يصح ذلك كما كنت بينته في "الضعيفة" (2 /63 /598 )([1])(*)
، ونبهت عليه في الرد على المنتصر الكتـاني (ص48 )
، واستندتُ في ذلك على الحافظ العراقي ، والعلامة ابن قيم الجوزية .
وقد
يظن بعضهم أن كل ما يُروى في كتب التاريخ والسيرة ، أن ذلك صار جزءاً لا يتجزأ من
التاريخ الإسلامي ، لا يجوز إنكار شيء منه ! وهذا جهل فاضح ، وتنكُّر بالغ للتاريخ
الإسلامي الرائع ، الذي يتميز عن تواريخ الأمم الأخرى بأنه هو وحده الذي يملك
الوسيلة العلمية لتمييز ما صح منه مما لم يصح ، وهي نفس الوسيلة التي يُميَّز بها
الحديث الصحيح من الضعيف ، ألا وهو الإسناد الذي قال فيه بعض السلف
: لولا الإسناد لقال من شاء ما شاء .
ولذلك
لما فقدت الأمم الأخرى هذه الوسيلة العظمى ؛ امتلأ تاريخها بالسخافات والخرافات ،
ولا نذهب بالقراء بعيداً ، فهذه كتبهم التي يسمونها بالكتب المقدسة ، اختلط فيها
الحابل بالنابل ، فلا يستطيعون تمييز الصحيح من الضعيف مما فيها من الشرائع
المنزلة على أنبيائهم ، ولا معرفة شيء من تاريخ حياتهم ، أبد الدهر ، فهم لا
يزالون في ضلالهم يعمهون ، وفي دياجير الظلام يتيهون !
فهل
يريد منا أولئك الناس أن نستسلم لكل ما يقال : إنه من التاريخ الإسلامي .
ولو أنكره العلماء ، ولو لم يرد له ذكر إلا
في كتب العجائز من الرجال والنساء ؟! وأن نَكْفُر بهذه المزية التي هي من أعلى
وأغلى ما تميز به تاريخ الإسلام ؟!
وأنا أعتقد أن بعضهم لا تخفى عليه المزية ،
ولا يمكنه أن يكون طالب علم بله عالماً دونها ، ولكنه يتجاهلها ، ويغض النظر عنها
ستراً لجهله بما لم يصح منه ، فيتظاهر بالغيرة على التاريخ الإسلامي ، ويبالغ في
الإنكار على من يُعَرِّف المسلمين ببعض ما لم يصح منه ، بطراً للحق ، وغَمْصاً
للناس . والله المستعان .
( فائدة ) :
من
المعلوم أن ( الدُّف ) من المعازف المحرمة في الإسلام ، والمتفق على تحريمها عند
الأئمة الأعلام ، كالفقهاء الأربعة وغيرهم ، وجاء فيها أحاديث صحيحة خرّجْتُ بعضها
في غير مكان ، وتقدم شيء منها برقم (9و 1806) ، ولا يحل منها إلا الدف وحده في
العرس والعيدين ، فإذا كان كذلك ، فكيف أجاز النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لها أن تفي بنذرها ؛ ولا نذر في معصية الله تعالى .
والجواب
– والله أعلم – لما كان نذرها مقروناً بفرحها بقدومه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ من الغزو سالماً ، ألحقه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالضرب على
الدف في العرس والعيد ، ومما لا شك فيه ، أن الفرح بسلامته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أعظم – بما لا يقاس – من الفرح في العرس والعيد ، ولذلك يبقى هذا الحكم
خاصاً به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، لا يقاس به غيره ؛ لأنه من باب قياس
الحَدَّادِين على الملائكة ، كما يقول بعضهم .
وقد
ذكر نحو هذا الجمع الإمام الخطابي في "معالم السنن"([2])(*)
، والعلامة صديق خان في "الروضة الندية" (2 /177 -178 )
.
انتهى من "الصحيحة" .
كتبه /
أبو فريحان جمال بن فريحان الحارثي .
7 / 8 / 1424هـ
..............................
(*) قال الشيخ في "الضعيفة" (2/63-64) بعد بيان ضعف حديث
ابْنِ عَائِشَةَ :
"لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ جَعَلَ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ وَالْوَلَائِدُ يَقُلْنَ
:
طَلَعَ الْبَدْرُ عَلَيْنَا * مِنْ ثَنِيَّاتِ الْوَدَاعْ .
وَجَبَ الشُّكْرُ عَلَيْنَا * مَا دَعَا لِلَّهِ دَاعْ" :
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ كَما فِي "تَارِيخِ ابنِ كَثيرٍ"
(5/23) {يعني "البداية والنهاية" وفي أخرى (5/21) ، و ط. التركي
(7/191)} : "وَهَذَا يَذْكُرُهُ عُلَمَاؤُنَا عِنْدَ مَقْدَمِهِ الْمَدِينَةَ
مِنْ مَكَّةَ لَا أَنَّهُ لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ مِنْ ثَنِيَّاتِ الْوَدَاعِ
عِنْدَ مَقْدَمِهِ مِنْ تبوك" .
وهذا الذي حكاه البيهقي عن العلماء جزم به ابن الجوزي في
"تلبيس إبليس" (ص 251 تحقيق صاحبي الأستاذ خير الدين وانلي) {وطبع
المنيرية (ص 224)} ، لكن رده المحقق ابن القيم فقال في "الزاد" (3/13)
{ط. الأرنؤوط (3/551)} : "وَهُوَ وَهْمٌ ظَاهِرٌ ; لِأَنَّ "ثَنِيَّاتِ
الْوَدَاعِ" إِنَّمَا هِيَ مِنْ نَاحِيَةِ الشَّامِ ؛ لَا يَرَاهَا
الْقَادِمُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ ، وَلَا يَمُرُّ بِهَا إِلَّا إِذَا
تَوَجَّهَ إِلَى الشَّامِ" .
ومع هذا فلا يزال الناس يَرَوْنَ خلاف هذا التحقيق ، على أن
القِصَّة برمتها غير ثابتة !
( تنبيه ) : أورد الغزالي هذه القصة بزيادة : "بالدف
والألحان" ، ولا أصل لها كما أشار لذلك الحافظ العراقي بقوله : "وليس
فيه ذكر للدف والألحان" .
وقد اغتر بهذه الزيادة بعضهم فأورد القصة بها ، مستدلا على جواز
الأناشيد النبوية المعروفة اليوم !
فيقال له : "أثبت العرش ثم انقش" ! على أنه لوصحت القِصة
لما كان فيها حجة على ما ذهبوا إليه كما سبقت الإشارة لهذا عند الحديث (579) فأغنى
عن الإعادة .
قال مهذبه : ولنفاسة ما كُتب تحت الحديث (579) المشار إليه وهو في
"الضعيفة" (2/48-50) انقله كما هو ، قال الشيخ الألباني :
"( فائدة ) : قال الحافظ {يعني به ابن حجر في
"الإصابة" (1/266) تح. الزيني . تحت ترجمة : بشير بن يزيد} :
"ويوم ذي قار من أيام العرب المشهورة كان بين جيش كسرى وبين
بكر بن وائل لأسباب يطول شرحها ، قد ذكرها الأخباريون ، وذكر ابن الكلبي أنها كانت
بعد وقعة بدر بأشهر ، قال : وأخبرني الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : ذكرت
وقعة ذي قار عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال :
(ذَاكَ أَوَّلُ يَوْمٍ انْتَصَفَ فِيهِ الْعَرَبُ مِنَ الْعَجَمِ ،
وَبِي نُصِرُوا)" .
قلت : هذه الكلمة (وَبِي نُصِرُوا) رواها الطبراني من طريق خالد بن
سعيد بن العاص عن أبيه عن جده فذكر قصة إرسال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أبا بكر إلى بكر بن وائل وعَرْضُه الإسلام عليهم وفيه : قالوا : حتى
يجيء شيخنا فلان - قال خلاّد : "أحسبه قال : المثنى بن خارجة - فلما جاء
شيخهم عرض عليهم أبو بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قال : إن بيننا وبين الفرس حرباً
فإذا فرغنا مما بيننا وبينها عدنا فنظرنا ، فقال أبو بكر :
أرأيت إن غلبتموهم أتتبعنا على أمرنا ؟ قال : لا نشترط لك هذا
علينا ، ولكن إذا فرغنا فيما بيننا وبينهم عدنا فنظرنا فيما نقول ، فلما التقوا
يوم ذي قار هُمْ والفرس قال شيخهم : ما اسم الرجل الذي دعاكم إلى الله ؟ قالوا :
محمد ، قالوا : هو شعاركم فنُصِروا على القوم . فقال رسول الله صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (بِي نُصِرُوا) . قال الهيثمي (6/211) : "ورجاله ثقات
رجال الصحيح غير خلاد بن عيسى وهو ثقة" .
( تنبيه ) : بلغ جهل بعض الناس بالتاريخ والسيرة النبوية في هذا
العصر أن أحدهم طبع منشورا يرد فيه على صديقنا الفاضل الأستاذ علي الطنطاوي طلبه
من الإذاعة أن تمتنع من إذاعة ما يسمونه بالأناشيد النبوية ، لما فيها من وصف جمال
النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعبارات لا تليق بمقامه صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، بل فيها ما هو أفظع من ذلك ؛ مثل الاستغاثة به صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من دون الله تبارك وتعالى ، فكتب المشار إليه في نشرته ما نصه
بالحرف (ص 4) : "وها هي (!) الصحابة الكرام رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم كانوا
يستصحبون بعض نسائهم لخدمة أنفسهم في الغزوات والحروب ، وكانوا يضمدون (!) الجرحى
ويهيئون (!) لهم الطعام ، وكانوا يوم ذي قار عند اشتداد وطيس الحرب بين الإسلام
والفرس كانت النساء تهزج أهازيج وتبعث الحماس في النفوس بقولها :
إنْ تُقبلوا نعانق * ونَفرش النمارق . أو تُدبروا نفارق * فراق غير
وامق . فانظر إلى هذا الجهل ما أبعد مداه ! .
فقد جعل المعركة بين الإسلام والفرس ، وإنما هي بين المشركين
والفرس ، ونسب النشيد المذكور لنساء المسلمين في تلك المعركة ! وإنما هو لنساء
المشركين في غزوة أحد ! كن يحمِّسن المشركين على المسلمين كما هو مروي في كتب
السيرة !
فقد خلط بين حادثتين متباينتين ، وركَّب منهما ما لا أصل له البتة
بجهله أو تجاهله ليتخذ من ذلك دليلاً على جواز الأناشيد المزعومة ، ولا دليل في
ذلك - لوثبت - مطلقاً إذ أن الخلاف بين الطنطاوي ومخالفيه ليس هو مجرد مدح النبي صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بل إنما هو فيما يقترن بمدحه مما لا يليق شرعاً كما سبقت
الإشارة إليه وغير ذلك مما لا مجال الآن لبيانه ، ولكن صَدَق من قال : "حبك
الشيء يعمي ويصم" - ورُوي مرفوعاً إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
، ولكنه لا يصح كما بيناه برقم (1868) - ، فهؤلاء أحبوا الأناشيد النبوية وقد يكون
بعضهم مخلصاً في ذلك غير مغرض ؛ فأعماهم ذلك عما اقترن بها من المخالفات الشرعية .
ثم إن هذا الرجل اشترك مع رجلين آخرين في تأليف رسالة ضدنا أسموها
"الإصابة في نصرة الخلفاء الراشدين والصحابة" حشوها بالافتراءات
والجهالات التي تنبيء عن هوى وقلة دراية ، فحملني ذلك على أن ألّفت في الرد عليهم
كتابا أسميته "تسديد الإصابة إلى من زعم نصرة الخلفاء الراشدين
والصحابة" موزعاً على ست رسائل صدر منها الرسالة الأولى وهي في بيان بعض
افتراءاتهم وأخطائهم ، والثانية في "صلاة التراويح" ، والثالثة في أن
"صلاة العيدين في المصلى هي السنة" ، ثم أصدرنا الخامسة بعنوان
"تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد". " . انتهى من الضعيفة .
..............................
(*) قال الخطابي في "معالم السنن" (4/382-383) : "ضرب
الدف ليس مما يعد في باب الطاعات التي يتعلق بها النذور ، غير أنه لما اتصل بإظهار
الفرح بسلامة مقدم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين قدم المدينة من
بعض غزواته وكانت فيه مساءة الكفار وإرغام المنافقين ؛ صار فعله كبعض القرب التي
هي من نوافل الطاعات ، ولهذا أبيح ضرب الدف ، واستحب في النكاح لما فيه من الإشاعة
بذكره والخروج به عن معنى السفاح" .