السبت، 10 سبتمبر 2016

تخصيص عبادة وهيئة يوم عرفة لغير الحاج بدعة ومحدثة







 


تخصيص عبادة وهيئة يوم عرفة لغير الحاج


غير ما وردت بها السنة ؛ بدعة ومحدثة


 


 


قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :


( مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ ؛ فَهُوَ رَدٌّ ) . متفق عليه .


وفي لفظ : ( مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا ؛ فَهُوَ رَدٌّ ) .


 


ومن المعلوم الذي لا يُنكر هو استحباب صوم يوم عرفة لغير الحاج لقول النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :


( صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ ) . رواه مسلم (1162) وغيره .


وفي لفظ : ( يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ وَالْبَاقِيَةَ ) .


وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :


( مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبْداً مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو ، ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمُ الْمَلَائِكَةَ ، فَيَقُولُ : مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ) .


رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1348) .




وظاهر الحديث وسياقه أن العتق المذكور فيه هو لمن وقف بعرفة من الحجاج يدل على ذلك قوله : (يُبَاهِي بِهِمُ) و (مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟) فالضمير يعود على الحجّاج وهم المقصودين بالعتق .


 


قال العامة الملا القاري : "(مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ) ؛ أَيْ : بِعَرَفَاتٍ" . "مرقاة المفاتيح" تحت حديث : (2594) .


 


ولكن رحمة الله وسعت كل شيء فنرجو لغير الحاج في الأمصار أن يعمهم الله بذلك العتق ولا نجزم ، قال ابن رجب :


"ويوم عرفة هو يوم العتق من النار فيعتق الله من النار من وقف بعرفة ومن لم يقف بها من أهل الأمصار من المسلمين" . "لطائف المعارف" (ص 276) . والله أعلم .


 


أما إحداث طريقة وهيئة للعبادة في هذا اليوم لغير الحاج كاجتماع على ذكرٍ أو عمل جدول تنظيم وقتٍ للعبادة ونشره بين الناس في هذا اليوم لغير الحاج فهو محدثة في الدين ، قصد صاحبه أو لم يقصد ، فالعبرة في إحداث العمل والهيئة الذي لم يكن على عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم ؛ لا إنكار الذكر والدعاء بعينه وصوم يوم عرفة لغير الحاج . فتنبه !


 


فقَد أخرج ابنُ وضّاح بسنده عَنْ أَبِي حَفْصٍ الْمَدَنِيِّ , قَالَ :


اجْتَمَعَ النَّاسُ يَوْمَ عَرَفَةَ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ يَدْعُونَ بَعْدَ الْعَصْرِ , فَخَرَجَ نَافِعٌ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ مِنْ دَارِ آلِ عُمَرَ فَقَالَ :


"أَيُّهَا النَّاسُ , إِنَّ الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِدْعَةٌ وَلَيْسَتْ بِسُنَّةٍ , إِنَّا أَدْرَكْنَا النَّاسَ وَلَا يَصْنَعُونَ مِثْلَ هَذَا , ثُمَّ رَجَعَ فَلَمْ يَجْلِسْ , ثُمَّ خَرَجَ الثَّانِيَةَ ؛ فَفَعَلَ مِثْلَهَا , ثُمَّ رَجَعَ" . "البدع والنهي عنها" (114) .


 


وبسنده عَنْ سُفْيَانَ قَالَ :


"لَيْسَتْ عَرَفَةُ إِلَّا بِمَكَّةَ , لَيْسَ فِي هَذِهِ الْأَمْصَارِ عَرَفَةُ" . (117) .


 


وبسنده أيضاً عِنِ ابْنِ عَوْنٍ قَالَ :


"شَهِدْتُ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيَّ ؛ سُئِلَ عَنِ اجْتِمَاعِ النَّاسِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ ؟ فَكَرِهَهُ ، وَقَالَ : (مُحْدَثٌ)" . (115) .


 


وأخرج بسنده ابن وضاح أيضاً عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ :


"أَنَّهُ كَانَ لَا يَأْتِي الْمَسْجِدَ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ" . (116) .



 
"قَالَ عَليّ بن الْجَعْد : حَدثنَا شُعْبَة قَالَ : سَأَلت الحكم وَحَمَّاد عَن اجْتِمَاع النَّاس يَوْم عَرَفَة فِي الْمَسَاجِد ؟

فَقَالاً : هُوَ مُحدث .

وَأخْبرنَا عَن مَنْصُور عَن إِبْرَاهِيم قَالَ : هُوَ مُحدث" .


"الباعث على إنكار البدع والحوادث" (ص 33) لأبي شامة ، وفي أخرى (ص 48) يأني ذكرها .

وقال أيضاً أبو القاسم شهاب الدين المقدسي الدمشقي المعروف بأبي شامة (المتوفى: 665هـ)

: "أما التَّعْرِيف الْمُحدث : فعبارة عَن اجْتِمَاع النَّاس عَشِيَّة يَوْم عَرَفَة ؛ فِي غير عَرَفَة ، فعلول مَا يَفْعَله الْحَاج يَوْم عَرَفَة من الدُّعَاء وَالثنَاء ، وَهَذَا أُحدث قَدِيماً واشتهر فِي الأفاق شرقاً وغرباً واستفحل أمره بِـ"بَيْت الْمُقَدّس" ، وَخرج الْأَمر فِيهِ الى مَا لاَ يحل اعْتِقَاده .


قَالَ ابْن وهب : سَأَلت مَالِكاً عَن الْجُلُوس يَوْم عَرَفَة ؛ يجلس أهل الْبَلَد فِي مَسْجِدهمْ وَيَدْعُو الإمام رجَالاً يدعونَ الله تَعَالَى للنَّاس الى غرُوب الشَّمْس ؟

فَقَالَ مَالك : مَا نَعْرِف هَذَا ! وَإِن النَّاس عندنَا الْيَوْم يَفْعَلُونَهُ .


قَالَ ابْن وهب : سَمِعت مَالِكاً يسْأَل عَن جُلُوس النَّاس فِي الْمَسْجِد عَشِيَّة عَرَفَة بعد الْعَصْر واجتماعهم للدُّعَاء ؟

فَقَالَ : لَيْسَ هَذَا من أَمر النَّاس ، وَإِنَّمَا مَفَاتِيح هَذِه الْأَشْيَاء من الْبدع .


وقَالَ مالكٌ رَحمَه الله تَعَالَى فِي "الْعُتْبِيَّة" : وأكره أن يُجلس أهل الافاق يَوْم عَرَفَة فِي الْمَسَاجِد للدُّعَاء ، وَمن اجْتمع اليه النَّاس للدُّعَاء ؛ فلينصرف ، ومقامه فِي منزله أحب اليَّ ، فاذا حضرت الصَّلَاة ؛ رَجَعَ فصلى فِي الْمَسْجِد .



تنويه: كتاب "الْعُتْبِيَّة" هو في الفقه المالكي لمحمد بن أحمد العتبي الأندلسي .





ممكن ترك الجلوس في المسجد من السلف مخافة الاقتداء به :


قَالَ مَالك بن أنس : وَلَقَد رَأَيْت رجَالاً مِمَّن اقْتدى بهم ؛ يتخلفون عَشِيَّة عَرَفَة فِي بُيُوتهم .

قَالَ : وَلاَ أحب للرجل الَّذِي قد علم - يَعْنِي الْعَالم - أَن يقْعد فِي الْمَسْجِد تِلْكَ العشية إِذا أَرَادوا أَن يقتدوا بِهِ وليقعد فِي بَيته .


قَالَ الْحَارِث بن مِسْكين : كنت أرى اللَّيْث بن سعد ؛ ينْصَرف بعد الْعَصْر يَوْم عَرَفَة ، فَلَا يرجع الى قرب الْمغرب .

وَقَالَ ابراهيم النَّخعِيّ : الإجتماع يَوْم عَرَفَة أَمر مُحدث .

وَقَالَ عَطاء الْخُرَاسَانِي : إِن اسْتَطَعْت أَن تَخْلُو عَشِيَّة عَرَفَة بِنَفْسِك فافعل .

وَكَانَ أَبُو وَائِل ؛ لاَ يَأْتِي الْمَسْجِد عَشِيَّة عَرَفَة .


قَالَ الطرطوشي : فاعلموا رحمكم الله أَن هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة علمُوا أَن أفضل الدُّعَاء يَوْم عَرَفَة وَلَكِن علمُوا أَن ذَلِك بموطن عَرَفَة لَا فِي غَيرهَا وَلَا منعُوا من خلى بِنَفسِهِ فحضرته نِيَّة صَادِقَة أَن يَدْعُو الله تَعَالَى .
وَإِنَّمَا كَرهُوا الْحَوَادِث فِي الدّين وَأَن يظنّ الْعَوام أَن من سنة يَوْم عَرَفَة الإجتماع بِسَائِر الْآفَاق وَالدُّعَاء فيتداعى الْأَمر الى أَن يدْخل فِي الدّين مَا لَيْسَ مِنْهُ قَالَ وَقد كنت بِبَيْت الْمُقَدّس فَإِذا كَانَ يَوْم عَرَفَة حشر أهل السوَاد وَكثير من أهل الْبَلَد فيقفون فِي الْمَسْجِد مستقبلي الْقبْلَة مُرْتَفعَة أَصْوَاتهم بِالدُّعَاءِ وَكَأَنَّهُ موطن عَرَفَة .


واخرج الْحَافِظ ابو الْقَاسِم فِي تَرْجَمَة مُعَاوِيَة بن الريان ، قَالَ : خرجت مَعَ سهل بن عبد الْعَزِيز الى أَخِيه عمر بْن عبد الْعَزِيز رَحمَه الله تَعَالَى حِين اسْتخْلف ، فَحَضَرَ ، فَلَمَّا كَانَ يَوْم عَرَفَة ؛ صلى عمر الْعَصْر ، فَلَمَّا فرغ ؛ انْصَرف الى منزله ، فَلم يخرج الى الْمغرب ، وَلم يقْعد للنَّاس" .
انتهى من "الباعث على إنكار البدع والحوادث" (ص 32-33) بتحقيق: عنبر ، و (ص 44-47) بتحقيق : عيون .

قلتُ : ولا معارضة بين قولنا ببدعية الاجتماع يوم عرفة لغير الحاج في الأمصار في المساجد والأماكن قصد الذكر الجماعي والدعوة إلى ذلك – وقد ذكرنا الآثار عن السلف بإنكار ذلك ووصفوه بالبدعة والإحداث في الدين ، وبين ما روي عن ابن عباس وغيره من السلف – إن صح ذلك عنهم – أنه يجلس في المسجد عشية يوم عرفة بالبصرة .

ففعل ابن عباس هو الجلوس في المسجد عشية يوم عرفة بعد ما صلى العصر يستغل هذا الوقت المبارك ، كما يجلس غيره في المسجد ، ويقال عن ذلك لغة : اجتمعوا في المسجد . ولا يكون المعنى أنهم قصدوا الجلوس الجماعي والتحليق والاجتماع مع بعضهم للذكر والدعاء الجماعي ، وإنما كلٌ يدعو ويذكر الله بنفسه ولوحده ؛ فهذا لا نعترض عليه إذا أرد أحد أن يجلس بعد العصر في المسجد يتعرض لنفحات الله في هذا اليوم المبارك بعيداً عن صخب الأولاد والنساء في البيوت ، مع ما سيأتي من بيان وحال اجتماع الناس لابن عباس وسببه ؛ وأن ذلك كان لاستماع العلم ، وندلل على ذلك بأقوال السلف :


"جَاء عَن الْحسن الْبَصْرِيّ رَحمَه الله تَعَالَى قَالَ : أول من جمع النَّاس فِي هَذَا الْمَسْجِد يَوْم عَرَفَة ؛ ابْن عَبَّاس - يَعْنِي مَسْجِد الْبَصْرَة - .

وَفِي رِوَايَة : أول من عرَّف ابْن عَبَّاس .

وَقَالَ الحكم : أول من عرَّف بِالْكُوفَةِ ؛ مُصعب بن الزبير .

وَقَالَ ابْن عوَانَة : رَأَيْت الْحسن الْبَصْرِيّ رَحمَه الله تَعَالَى يَوْم عَرَفَة بعد الْعَصْر ؛ جلس فَدَعَا وَذكر الله تَعَالَى ؛ فَاجْتمع النَّاس .

وَفِي وَرَايَة : رَأَيْت الْحسن خرج يَوْم عَرَفَة من الْمَقْصُورَة بعد الْعَصْر فَقعدَ وَعرّف" .


انتهى من "الباعث على إنكار البدع والحوادث" (ص 33) ، وبتحقيق: عيون (ص 47-48) .

وبيّن أسباب اجتماع الناس إلى ابن عباس والحسن وأوضحه أبو القاسم شهاب الدين المقدسي الدمشقي المعروف بأبي شامة في كتابه المذكور آنفاً :

"الباعث على إنكار البدع والحوادث" (ص 33-34) وبتحقيق : عيون (48-49) ،
فقال :


"قلتُ : فان ابْن عَبَّاس رضى الله عَنْهُمَا ، حَضرته نِيَّة ؛ فَقعدَ فَدَعَا .
وَكَذَلِكَ الْحسن من غير قصد الجمعية ومضاهاه لأهل عَرَفَة ، وإيهام الْعَوام إِن هَذَا شعار من شَعَائِر الدّين .

وَالْمُنكر إِنَّمَا هُوَ مَا اتّصف بذلك وَالله أعلم على أَن تَعْرِيف ابْن عَبَّاس قد صَار على صُورَة أُخْرَى غير مستنكر !


ذكر مُحَمَّد بن قُتَيْبَة فِي غَرِيبَة قَالَ : فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس ان الْحسن ذكره ، فَقَالَ :
كَانَ أول من عرَّف بِالْبَصْرَةِ ، صعد الْمِنْبَر فَقَرَأَ الْبَقَرَة وَآل عمرَان ، وفسرهما حرفاً حرفاً .


قلت - القائل : أبو شامة الكلام موصل - :
فتعريف ابْن عَبَّاس رضى الله عَنْهُمَا كَانَ على هَذَا الْوَجْه ؛ فسر للنَّاس الْقُرْآن ، فَإِنَّمَا اجْتَمعُوا لاستماع الْعلم ؛ وَكَانَ ذَلِك عَشِيَّة عَرَفَة .


فَقيل : عرَّف ابْن عَبَّاس بِالْبَصْرَةِ لِاجْتِمَاع النَّاس لَهُ كاجتماعهم الْموقف ، وَقد وضَّحتُ ذَلِك أَيْضاً فِي تَرْجَمَة عبد الله بن عَبَّاس رضى الله عَنْهُمَا فِي كتاب "التَّارِيخ الْكَبِير" . " انتهى .


"وَقد قَالَ الْأَثْرَم : سَأَلت أَحْمد بن حَنْبَل عَن التَّعْرِيف فِي الْأَمْصَار يَجْتَمعُونَ يَوْم عَرَفَة ؟

فَقَالَ : أَرْجُو أَن لاَ يكون بِهِ بَأْس ، قد فعله غير وَاحِد : الْحسن ، وَبكر ، وثابت ، وَمُحَمّد بن وَاسع ؛ كَانُوا يشْهدُونَ الْمَسْجِد يَوْم عَرَفَة .


وَفِي رِوَايَة : قَالَ أَحْمد : لاَ بَأْس بِهِ ؛ إِنَّمَا هُوَ دُعَاء ، وَذكر لله .


فَقيل لَهُ : تَفْعَلهُ أَنْتَ ؟ قَالَ : أمَّا أَنا ؛ فَلَا" . ذكره الشَّيْخ موفق الدّين فِي كِتَابه الْمُغنِي" .
"الباعث على إنكار البدع والحوادث" (ص 34) ، وبتحقيق : عيون (ص 49) ..


والآثار عن الإمام أحمد في "المغني مع الشرح الكبير" (2 / 259) .

قلتُ : ومع أن الإمام أحمد لم يرى بذلك بأساً لغيره ، إلا إنه لم يرتضيه لنفسه ولم يفعله .

 



فاعتبروا يا أولي الأبصار !


 





كتبه /


أبو فريحان جمال بن فريحان الحارثي .


7 / 12 / 1433هـ