فحيّوا بأحسن منها
قَالَ تَعَالَى : ]وَإِذَا
حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ
كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا[ [النساء : 86] .
"يَعْنِي
جَلَّ ثَنَاؤُهُ : إِذَا دُعِيَ لَكُمْ بِطُولِ الْحَيَاةِ وَالْبَقَاءِ
وَالسَّلَامَةِ ؛ فَادْعُوا لِمَنْ دَعَا لَكُمْ بِذَلِكَ بِأَحْسَنَ مِمَّا دَعَا
لَكُمْ , أَوْ رُدُّوا التَّحِيَّةَ" . "تفسير
الطبري" .
قلتُ
: وظاهر الآية يقتضي أنه لا يجوز الاقتصار على قوله : وَعَلَيْكُمُ السَّلَامُ .
قال البغوي :
"وَالْمُرَادُ بِالتَّحِيَّةِ هَاهُنَا
السَّلَامُ ، يَقُولُ: إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ مُسْلِمٌ ؛ فأجيبوا بأحسن مما سلم
أو ردّوها ؛ أي : ردوا كَمَا سَلَّمَ ، فَإِذَا قَالَ : السَّلَامُ عَلَيْكُمْ ،
فَقُلْ : وَعَلَيْكُمُ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ ، وَإِذَا قَالَ :
السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ ، فَقُلْ : وَعَلَيْكُمُ السَّلَامُ
ورحمة الله وبركاته.
وَاعْلَمْ أَنَّ السَّلَامَ سَنَّةٌ ؛ وَرَدَّ
السَّلَامِ فَرِيضَةٌ ، وَهُوَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ ، وَكَذَلِكَ السَّلَامُ
سَنَةٌ عَلَى الْكِفَايَةِ ، فَإِذَا سَلَّمَ وَاحِدٌ مِنْ جَمَاعَةٍ كَانَ كَافِياً
في السنة ، إذا سَلَّمَ وَاحِدٌ عَلَى جَمَاعَةٍ وَرَدَّ واحد منهم سقط الغرض عَنْ
جَمِيعِهِمْ" .
"تفسير
البغوي" (1 / 669-670) .
قَالَ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ : السَّلَامُ
تَطَوُّعٌ ، والرد فريضة .
قال ابن كثير في "تفسيره" عقبه :
"وهذا الذي قال هُوَ قَوْلُ الْعُلَمَاءِ
قَاطِبَةً، أَنَّ الرَّدَّ وَاجِبٌ عَلَى مَنْ سُلِّمَ عَلَيْهِ، فَيَأْثَمُ إِنْ
لَمْ يَفْعَلْ، لِأَنَّهُ خَالَفَ أَمْرَ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ : ]فَحَيُّوا
بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا[" . انتهى .
و"اعْلَمْ أَنَّ عَادَةَ الْعَرَبِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ أَنَّهُ إِذَا لَقِيَ
بَعْضُهُمْ بَعْضاً قَالُوا : حَيَّاكَ اللَّه . وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ الْحَيَاةِ ؛
كَأَنَّهُ يَدْعُو لَهُ بِالْحَيَاةِ ، فَكَانَتِ التَّحِيَّةُ عِنْدَهُمْ
عِبَارَةً عَنْ قَوْلِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ : حَيَّاكَ اللَّه ، فَلَمَّا جَاءَ
الْإِسْلَامُ أُبْدِلَ ذَلِكَ بِالسَّلَامِ ، فَجَعَلُوا التَّحِيَّةَ اسْماً
لِلسَّلَامِ .
قَالَ
تَعَالَى : ]تَحِيَّتُهُمْ
يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ[ [الْأَحْزَابِ : 44] .
وَإِنْ سَلَّمَتِ الْمَرْأَةُ الْأَجْنَبِيَّةُ
عَلَيْهِ ؛ وَكَانَ يَخَافُ فِي رَدِّ الْجَوَابِ عَلَيْهَا تُهْمَةً أَوْ
فِتْنَةً ؛ لَمْ يَجِبِ الرَّدُّ ، بَلِ الْأَوْلَى أَنْ لَا يَفْعَلَ ، حَيْثُ
قُلْنَا إِنَّهُ لاَ يُسَلِّمُ ، فَلَوْ سَلَّمَ ؛ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهَا الرَّدُّ
، لِأَنَّهُ أَتَى بِفِعْلٍ مَنْهِيٍّ عَنْهُ فَكَانَ وَجُودُهُ كَعَدَمِهِ"
.
التفسير
الكبير" (10 / 161 و 166) .
"وَالسُّنَّةُ
فِي السَّلَامِ وَالْجَوَابِ ؛ الْجَهْرُ ، وَلاَ تَكْفِي الْإِشَارَةُ
بِالْإِصْبَعِ وَالْكَفِّ" .
"تفسير
القرطبي" في الآية .
أما حديث :
"جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ
! فَقَالَ : (وَعَلَيْكَ السَّلَامُ ورحمة الله) ، ثُمَّ جَاءَ آخَرُ ، فَقَالَ :
السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ ! فَقَالَ لَهُ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (وَعَلَيْكَ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ
اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ) ، ثُمَّ جَاءَ آخَرُ ، فَقَالَ : السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا
رَسُولَ اللَّهِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ ! فَقَالَ لَهُ : (وَعَلَيْكَ) .
فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ : يَا نَبِيَّ اللَّهِ ! بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي ،
أَتَاكَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ فَسَلَّمَا عَلَيْكَ فَرَدَدْتَ عَلَيْهِمَا أَكْثَرَ
مِمَّا رَدَدْتَ عَلَيَّ ؟ فَقَالَ : (إِنَّكَ لَمْ تَدَعْ لَنَا شَيْئاً ، قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى : ]وَإِذا
حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ
فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها[ ؛ فَرَدَدْنَاهَا عَلَيْكَ)" .
هذا الحديث قال عنه المحدث الألباني في "السلسلة
الضعيفة" (5433) : "منكر" .
قلتُ : اشتبه على البعض الزيادة على (وَبَرَكَاتُهُ)
في السلام ، فمنعوها في الابتداء والرد مطلقاً ، وهذا وهمٌ ، فأنما المنع في
الابتداء بها في السلام وقبول الزيادة بما ورد وصح في ردِّ السلام بها .
قال الألباني :
"وسبب الوهم : أنه جاء في بعض الآثار ما يشبه هذه
الزيادة ، فاشتبه الأمر على الراوي ، ودخل عليه رواية في أخرى ، وهي ما رواه مالك
في "الموطأ" (3/ 132) عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ ؛
أَنَّهُ قَالَ : كُنْتُ جَالِساً عِنْدَ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ ، فَدَخَلَ
عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ ، فَقَالَ : السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ
وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ. ثُمَّ زَادَ شَيْئاً مَعَ ذلِكَ أَيْضاً ، قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ - وَهُوَ يَوْمَئِذٍ قَدْ ذَهَبَ بَصَرُهُ - : مَنْ هذَا ؟
قَالُوا : هذَا الْيَمَانِيُّ الَّذِي يَغْشَاكَ ،
فَعَرَّفُوهُ إِيَّاهُ .
قَالَ : فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : إِنَّ السَّلاَمَ
انْتَهَى إِلَى الْبَرَكَةِ" .
قلت: وإسناده صحيح.
ونحوه : ما رواه مالك أيضاً (3/ 133-134) عَنْ
يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ :
"أَنَّ رَجُلاً سَلَّمَ عَلَى عَبْدِ اللهِ
بْنِ عُمَرَ ، فَقَالَ : السَّلاَمُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ ، وَالْغَادِيَاتُ
وَالرَّائِحَاتُ !
فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ :
وَعَلَيْكَ أَلْفاً ! كَأَنَّهُ كَرِهَ ذلِكَ" .
قلت: وإسناده منقطع بين يحيى وابن عمر.
لكن أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي "الشُّعَبِ"
مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بن بِأَبِيهِ قَالَ :
"جَاءَ رجل إِلَى بن عُمَرَ ، فَقَالَ : السَّلَامُ
عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ وَمَغْفِرَتُهُ . فَقَالَ : حَسْبُكَ
إِلَى (وَبَرَكَاتُهُ) انْتَهَى إِلَى (وَبَرَكَاتُهُ) .
وَمِنْ طَرِيقِ زُهْرَةَ بْنِ مَعْبَدٍ قَالَ : قَالَ
:
"عُمَرُ انْتَهَى السَّلَامُ إِلَى (وَبَرَكَاتُهُ)"
.
وَرِجَالُهُ ثِقَات ؛ كما قال الحافظ في
"الفتح" (11 / 6 - السلفية) ، ولم يتعرض بذكر للإسناد إلى عبد الله بن
بابيه – ويقال : ابن باباه - ، وهو ثقة .
ولا يخفى أن أثر ابن عمر هذا لو صح لا يشهد - كأثر
ابن عباس - لحديث الترجمة ، وذلك لأمرين :
1- أن الحديث مرفوع ، والأثر موقوف .
2- أن الحديث في رد السلام ، والأثر في إلقائه .
ويؤيد ذلك : أنه ثبت عن ابن عمر وغيره من السلف ما
يخالف هذا الحديث الضعيف : فروى البخاري في "الأدب المفرد" (ص 49 - دار
الكتب العلمية) عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ سَالِمٍ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عَمْرٍو قَالَ :
"وَكَانَ ابْنُ عَمْرٍو إِذَا سُلِّمَ
عَلَيْهِ فَرَدَّ زَادَ ، فَأَتَيْتُهُ وَهُوَ جَالِسٌ ، فَقُلْتُ : السَّلَامُ
عَلَيْكُمْ ، فَقَالَ : السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ ، ثُمَّ
أَتَيْتُهُ مَرَّةً أُخْرَى فَقُلْتُ : السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ ،
قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ ، ثُمَّ
أَتَيْتُهُ مَرَّةً أُخْرَى فَقُلْتُ : السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ
وَبَرَكَاتُهُ ، فَقَالَ : السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ
، وَطَيِّبُ صَلَوَاتِهِ" .
قلت : ورجاله ثقات معروفون ؛ غير سالم هذا ، ولكن
ذلك لا يمنع من الاستشهاد به ؛ كما لا يخفى على الخبراء بهذا العلم الشريف .
ثم روى في "الأدب المفرد" (ص 147،165) عن
زيد بن ثابت: أنه كتب إلى معاوية - والظاهر أنه جواب كتاب من معاوية إليه -:
"وَالسَّلَامُ
عَلَيْكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ وَمَغْفِرَتُهُ"
- زاد في الموضع الأول - : "وَطَيِّبُ صَلَوَاتِهِ" .
قلت : إسناده صحيح . وسكت عنه الحافظ وعن الذي قبله
.
وذكر عن ابن دقيق العيد أنه نقل عن أبي الوليد بن
رشد أنه يؤخذ من قوله تعالى : ]فَحَيُّوا
بِأَحْسَنَ مِنْها[ الجواز في الزيادة على البركة إذا انتهى إليها المبتدئ .
ثم ذكر بعض الأحاديث المرفوعة الصريحة في ذلك ، ثم
قال :
"وهذه الأحاديث الضعيفة إذا انضمت ؛ قوي ما
اجتمعت عليه من مشروعية الزيادة على (وبركاته)".
ومن تلك الأحاديث الصريحة : ما ذكره من رواية
البيهقي في "الشعب" - بسند ضعيف - من حديث زيد بن أرقم:
كنا إذا سلم علينا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ؛ قلنا : وعليك السلام ورحمة الله وبركاته ومغفرته .
قلت : وفاته أنه أخرجه البخاري أيضاً في
"التاريخ" ؛ كما كنت خرجته في "الصحيحة" (1449) ، وذهبت هناك
إلى تجويد إسناده ؛ لأنه ليس في رجاله من ينظر فيه غير إبراهيم بن المختار الرازي ،
وهو وإن كان مختلفاً فيه ؛ فقد اعتمدت على قول أبي حاتم فيه :
"صالح الحديث" ؛ مع تشدده المعروف في
التوثيق ، لا سيما وقد وافقه على ذلك أبو داود ، وهو مقتضى توثيق ابن شاهين وابن
حبان إياه ؛ إلا أن هذا قال :
"يتقى حديثه من رواية ابن حميد عنه" .
وهذا ليس من روايته عنه، بل من رواية محمد بن سعيد
بن الأصبهاني عنه، كما ذكرته هناك .
وجملة القول : أن الحديث ضعيف الإسناد منكر المتن ؛
لمخالفته لظاهر آية رد التحية بأحسن منها ، والأحاديث والآثار الموافقة لها .
والله تعالى أعلم .
والحافظ ذهب إلى شرعية الزيادة على "..
وبركاته" في رد السلام " .
انتهى من "الضعيفة" (11 / 719-726)
.
قلتُ : والحديث الذي أشار إليه الشيخ الألباني في
"الصحيحة" رقم (1449) :
عَنْ زيد بْن أرقم قَالَ :
"كنا إذا سلم النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علينا ، قلنا : وَعَلَيْكَ السَّلاَمُ وَرَحْمَةُ اللهِ
وَبَرَكَاتُهُ وَمَغْفِرَتُهُ" .
قال الألباني : "أخرجه البخاري في "
التاريخ الكبير " (1 / 1 / 330) ، وهذا إسناد جيد رجاله ثقات" . "الصحيحة" (3 / 433) .
قلتُ : وهذا مما نختم به المسألة ، ونجزم بمشروعية
زيادة : (وَمَغْفِرَتُهُ) في ردِّ السلام دون الابتداء بالسلام ؛ والآية تؤيده ؛ إذْ إن ابتداء السلام ينتهي عند (وَبَرَكَاتُهُ) .
والله أعلم .
تنبيه : جميع النقولات عن مراجع
"التفاسير"المذكورة في البحث هي عند تفسيرهم للآية في الباب ، حيث أني لم أذكر أرقام
المراجع تخفيفاً للقاري .
كتبه /
أبو فريحان جمال بن فريحان الحارثي .
9 / 11 / 1425هـ