رسالة
إلى كل من يُكفِّر حكّام المسلمين
سبب
نزول ) وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ ( الآية ، وأنها في الكفار ، وأن الكفرَ
العملي غير الاعتقادي .
قَالَ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْزَلَ : ]وَمَنْ
لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [وَ
]أُولَئِكَ
هُمُ الظَّالِمُونَ [وَ
]أُولَئِكَ
هُمُ الْفَاسِقُونَ[ .
قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ : أَنْزَلَهَا اللَّهُ فِي الطَّائِفَتَيْنِ مِنَ الْيَهُودِ ،
وَكَانَتْ إِحْدَاهُمَا قَدْ قَهَرَتِ الأُخْرَى فِي الْجَاهِلِيَّةِ حَتَّى
ارْتَضَوْا وَاصْطَلَحُوا عَلَى أَنَّ كُلَّ قَتِيلٍ قَتَلَتْهُ
"الْعَزِيزَةُ" مِنَ "الذَّلِيلَةِ" فَدِيَتُهُ خَمْسُونَ
وَسْقاً ، وَكُلَّ قَتِيلٍ قَتَلَتْهُ "الذَّلِيلَةُ" مِنَ
"الْعَزِيزَةِ" فَدِيَتُهُ مِائَةُ وَسْقٍ ، فَكَانُوا عَلَى ذَلِكَ ،
حَتَّى قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ ،
فَذَلَّتِ الطَّائِفَتَانِ كِلْتَاهُمَا لِمَقْدَمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَيَوْمَئِذٍ لَمْ يَظْهَرْ وَلَمْ يُوطِئْهُمَا عَلَيْهِ - لفظ
الطبراني : "وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ
لَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يُوطِئْهُمَا وَهُوَ الصُّلْحُ"- وَهُوَ فِي
الصُّلْحِ ، فَقَتَلَتِ "الذَّلِيلَةُ" مِنَ "الْعَزِيزَةِ"
قَتِيلاً ، فَأَرْسَلَتِ "الْعَزِيزَةُ" إِلَى "الذَّلِيلَةِ"
أَنِ ابْعَثُوا إِلَيْنَا بِمَائَةِ وَسْقٍ ، فَقَالَتِ "الذَّلِيلَةُ"
: وَهَلْ كَانَ هَذَا فِي حَيَّيْنِ قَطُّ دِينُهُمَا وَاحِدٌ ، وَنَسَبُهُمَا
وَاحِدٌ وَبَلَدُهُمَا وَاحِدٌ ، دِيَةُ بَعْضِهِمْ نِصْفُ دِيَةِ بَعْضٍ ؟!
إِنَّا إِنَّمَا أَعْطَيْنَاكُمْ هَذَا ضَيْماً مِنْكُمْ لَنَا ، وَفَرَقاً([1])
مِنْكُمْ ، فَأَمَّا إِذْ قَدِمَ مُحَمَّدٌ فَلاَ نُعْطِيكُمْ ذَلِكَ ، فَكَادَتِ
الْحَرْبُ تَهِيجُ بَيْنَهُمَا ، ثُمَّ ارْتَضَوْا عَلَى أَنْ يَجْعَلُوا رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمْ . ثُمَّ ذَكَرَتِ
"الْعَزِيزَةُ" ، فَقَالَتْ : وَاللَّهِ مَا مُحَمَّدٌ بِمُعْطِيكُمْ
مِنْهُمْ ضِعْفَ مَا يُعْطِيهِمْ مِنْكُمْ ، وَلَقَدْ صَدَقُوا ، مَا أَعْطَوْنَا
هَذَا إِلاَّ ضَيْماً مِنَّا ، وَقَهْراً لَهُمْ ، فَدُسُّوا إِلَى مُحَمَّدٍ مَنْ
يَخْبُرُ لَكُمْ رَأْيَهُ ؛ إِنْ أَعْطَاكُمْ مَا تُرِيدُونَ حَكَّمْتُمُوهُ ،
وَإِنْ لَمْ يُعْطِكُمْ حَذِرْتُمْ ؛ فَلَمْ تُحَكِّمُوهُ ، فَدَسُّوا إِلَى
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَاساً مِنَ الْمُنَافِقِينَ
لِيَخْبُرُوا لَهُمْ رَأْىَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ،
فَلَمَّا جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ اللَّهُ
رَسُولَهُ بِأَمْرِهِمْ كُلِّهِ وَمَا أَرَادُوا ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ : ]يَا
أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ
الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا[ إِلَى قَوْلِهِ ]وَمَنْ
لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ[ ، ثُمَّ قَالَ : فِيهِمَا وَاللَّهِ نَزَلَتْ ، وَإِيَّاهُمَا
عَنَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ) .
"الصحيحة" (2552) .
{ قَالَ شيخُنا الألباني
في "الصحيحة" (6/الأول/111-116) } :
(
فائدة هامـة ) :
إذا
علمت أن الآيات الثلاث : ]وَمَنْ
لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ[ ، ]فَأُولَئِكَ
هُمُ الظَّالِمُونَ[ ، ]فَأُولَئِكَ
هُمُ الْفَاسِقُونَ[ نزلت في اليهود وقولهم في حكمه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(إِنْ أَعْطَاكُمْ مَا تُرِيدُونَ ؛ حَكَّمْتُمُوهُ ، وَإِنْ لَمْ يُعْطِكُمْ ؛ حَذِرْتُمْ
؛ فَلَمْ تُحَكِّمُوهُ) ، وقد أشار القرآن إلى قولهم هذا قبل هذه الآيات فقال : ]يَقُولُونَ
إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا[ ، إذا عرفت هذا ، فلا يجوز حمل هذه الآيات على
بعض الحكام المسلمين وقضاتهم الذين يحكُمون بغير ما أنزل الله من القوانين الأرضية
، أقول : لا يجوز تكفيرهم بذلك ، وإخراجهم من الملة ، إذا كانوا مؤمنين بالله
ورسوله ، وإن كانوا مجرمين بحكمهم بغير ما أنزل الله ، لا يجوز ذلك ، لأنهم وإن
كانوا كاليهود من جهة حكمهم المذكور ، فهم مخالفون لهم من جهة أخرى ، ألا وهي
إيمانهم وتصديقهم بما أنزل الله ، بخلاف اليهود الكفار ، فإنهم كانوا جاحدين له
كما يدل عليه قولهم المتقدم : (. . . وَإِنْ لَمْ يُعْطِكُمْ حَذِرْتُمْ ؛ فَلَمْ
تُحَكِّمُوهُ) ، بالإضافة إلى أنهم ليسوا مسلمين أصلاً ، وسرّ هذا أن الكفر قسمان
:
اعتقادي وعملي . فالاعتقادي مقرّه
القلب . والعملي محلّه الجوارح .
فمن كان عمله كفراً لمخالفته للشرع ، وكان مطابقاً لما وقر في قلبه من
الكفر به ، فهو الكفر الاعتقادي ، وهو الكفر الذي لا يغفره الله ، ويخلد صاحبه في
النار أبداً . وأما إذا كان مخالفاً لما وقر في قلبه ، فهو مؤمن بحكم ربه ، ولكنه
يخالفه بعمله ، فكفره كفرٌ عملي فقط ، وليس كفراً اعتقادياً ، فهو تحت مشيئة الله
تعالى إن شاء عذّبه ، وإن شاء غفر له ، وعلى هذا النوع من الكفر تُحمَلُ الأحاديثُ
التي فيها إطلاق الكفر على من فعل شيئاً من المعاصي من المسلمين، ولا بأس من ذكر
بعضها :
1-
(اثْنَتَانِ فِي النَّاسِ هُمَا بِهِمْ كُفْرٌ ، الطَّعْنُ فِي النَّسَبِ ،
وَالنِّيَاحَةُ عَلَى الْمَيِّتِ) .
2-
(الْجِدَالُ فِي الْقُرْآنِ كُفْرٌ) .
3-
(سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ) .
4-
(كُفْرٌ بِاللَّهِ تَبَرُّؤٌ مِنْ نَسَبٍ وَإِنْ دَقَّ) .
5-
(التَّحَدُّثُ بِنِعْمَةِ اللَّهِ شُكْرٌ وَتَرْكُهَا كُفْرٌ) .
6- (لا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ
بَعْضٍ) .
إلى
غير ذلك من الأحاديث الكثيرة التي لا مجال الآن لاستقصائها . فمن قام من المسلمين
بشيء من هذه المعاصي ، فكفرُه كفر عملي ، أي إنه يعمل عمل الكفار ، إلا أن
يستحلّها ، ولا يرى كونَها معصية فهو حينئذ كافرٌ حلال الدم ، لأنه شارك الكفار في
عقيدتهم أيضاً ، والحكم بغير ما أنزل الله ، لا يخرج عن هذه القاعدة أبداً ، وقد
جاء عن السلف ما يدعمها ، وهو قولهم في تفسير الآية : "كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ"
، صح ذلك عن ترجمان القرآن عبد الله بن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، ثم تلقاه عنه
بعض التابعين وغيرهم ، ولا بد من ذكر ما تيسر لي عنهم لعل في ذلك إنارة للسبيل
أمام من ضلّ اليوم في هذه المسألة الخطيرة ، ونحا نحو الخوارج الذين يكفِّرون
المسلمين بارتكابهم المعاصي ، وإن كانوا يصلون ويصومون !
1- روى ابن جرير الطبري ( 10/ 355/ 12053 ) {(6 / 596/ 12058)} بإسناد
صحيح عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ :
]وَمَنْ
لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ[ قَالَ : "هِيَ بِهِ كُفْرٌ , وَلَيْسَ كُفْراً بِاللَّهِ
وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ" .
2-
وفي رواية عنه في هذه الآية : "إِنَّهُ لَيْسَ بِالْكُفْرِ الَّذِي
يَذْهَبُونَ إِلَيْهِ ، إِنَّهُ لَيْسَ كُفْراً يَنْقِلُ عَنِ الْمِلَّةِ ، كُفْرٌ
دُونَ كُفْرٍ" .
(يَذْهَبُونَ إِلَيْهِ) ؛ كأنه يشير إلى
الخوارج الذي خرجوا على علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
أخرجه الحاكم (2 / 313 ) ، وقال :
"صحيح الإسناد" . ووافقه الذهبي ، وحقهما أن يقولا : على شرط الشيخين .
فإن إسناده كذلك .
ثم
رأيت الحافظ ابن كثير نقل في "تفسيره" (6 /163) {(6 /112) تح. غنيم
وصاحبيه} عن الحاكم أنه قال :
"صحيح على شرط الشيخين" ، فالظاهر أن في نسخة
"المستدرك" المطبوعة سقطاً ، وعزاه ابن كثير لابن أبي حاتم أيضاً ببعض
اختصار .
3-
وفي أخرى عنه من رواية عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ , عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ :
"مَنْ جَحَدَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَقَدْ كَفَرَ , وَمَنْ أَقَرَّ بِهِ
وَلَمْ يَحْكُمْ فَهُوَ ظَالِمٌ فَاسِقٌ" . أخرجه ابن جرير (12063) {(12068)}
.
قلت
: وابن أبي طلحة لم يسمع من ابن عباس ، لكنّه جيد في الشواهد .
4-
ثم روى (12047 - 12051) {(12052 - 12056)} عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ قَوْلُهُ : (وذكر الآيات الثلاث) :
"كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ , وَفِسْقٌ دُونَ فِسْقٍ , وَظُلْمٌ دُونَ ظُلْمٌ"
. وإسناده صحيح .
5-
ثم روى (12052) {(12057)} عَنْ سَعِيدٍ الْمَكِّيِّ , عَنْ
طَاوُسٍ (وذكر الآية) ، قَالَ :
"لَيْسَ بِكُفْرٍ يَنْقُلُ عَنِ الْمِلَّةِ" .
وإسناده صحيح .
6- وروى (12025 و 12026) {(12030 -12031)}
من طريقين عَنْ عِمْرَانَ بْنَ حُدَيْرٍ قَالَ : أَتَى أَبَا مِجْلَزِ - [من كبار
ثقات التابعين واسمه لاحق بن حميد البصري] - نَاسٌ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ
سَدُوسٍ , "وفِي الطَّريقِ الآخر : نَفَرٌ مِنَ الْإِبَاضِيَّةِ" -
[طائفة من الخوارج] - ، فَقَالُوا : أَرَأَيْتَ قَوْلَ اللَّهِ : ]وَمَنْ
لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ[ -{المائدة: 44}- أَحَقٌّ هُوَ ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالُوا : ]وَمَنْ
لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ[ -{المائدة: 45}- أَحَقٌّ هُوَ ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالُوا : ]وَمَنْ
لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ[ -{المائدة: 47}- أَحَقٌّ هُوَ ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالَ :
فَقَالُوا : يَا أَبَا مِجْلَزٍ ! فَيَحْكُمُ هَؤُلَاءِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ ؟
قَالَ : هُوَ دِينُهُمُ الَّذِي يَدِينُونَ بِهِ , وَبِهِ يَقُولُونَ , وَإِلَيْهِ
يَدْعُونَ - [يعني الأمراء] - , فَإِنْ هُمْ تَرَكُوا شَيْئاً مِنْهُ عَرَفُوا
أَنَّهُمْ قَدْ أَصَابُوا ذَنْباً . فَقَالُوا : لَا وَاللَّهِ , وَلَكِنَّكَ
تَفْرَقُ .
قَالَ
: أَنْتُمْ أَوْلَى بِهَذَا مِنِّي ! لَا أَرَى ، وَإِنَّكُمْ تَرَوْنَ هَذَا
وَلَا تَحَرَّجُونَ , وَلَكِنَّهَا أُنْزِلَتْ فِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى
وَأَهْلِ الشِّرْكِ , أَوْ نَحْواً مِنْ هَذَا" . وإسناده صحيح .
وقد اختلف العلماء في تفسير الكفر في الآية
الأولى على خمسة أقوال ساقها ابن جرير (10 /346-357) {(6 /592-597)} بأسانيده إلى
قائليها ، ثم ختم ذلك بقوله (10 - 358) {(6 /597) بعد آخر أثر (12068) في المسألة} :
"وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ
عِنْدِي بِالصَّوَابِ , قَوْلُ مَنْ قَالَ : نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ فِي
كُفَّارِ أَهْلِ الْكِتَابِ , لِأَنَّ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا مِنَ
الْآيَاتِ فَفِيهِمْ نَزَلَتْ ، وَهُمُ الْمَعْنِيُّونَ بِهَا , وَهَذِهِ
الْآيَاتُ سِيَاقُ الْخَبَرِ عَنْهُمْ ، , فَكَوْنُهَا خَبَراً عَنْهُمْ أَوْلَى .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : فَإِنَّ اللَّهَ
تَعَالَى ذِكْرُهُ قَدْ عَمَّ بِالْخَبَرِ بِذَلِكَ عَنْ جَمِيعِ مَنْ لَمْ
يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ , فَكَيْفَ جَعَلْتَهُ خَاصّاً ؟
قِيلَ : إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَمَّمَ
بِالْخَبَرِ بِذَلِكَ عَنْ قَوْمٍ كَانُوا بِحُكْمِ اللَّهِ الَّذِي حَكَمَ بِهِ
فِي كِتَابِهِ جَاحِدِينَ ، فَأَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ بِتَرْكِهِمُ الْحُكْمَ
- عَلَى سَبِيلِ مَا تَرَكُوهُ – كَافِرُونَ . وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي كُلِّ
مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ جَاحِداً بِهِ ؛ هُوَ بِاللَّهِ
كَافِرٌ , كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ؛ لِأَنَّهُ بِجُحُودِهِ حُكْمَ اللَّهُ
بَعْدَ عِلْمِهِ أَنَّهُ أَنْزَلَهُ فِي كِتَابِهِ ؛ نَظِيرَ جُحُودِهِ نُبُوَّةَ
نَبِيِّهِ بَعْدَ عِلْمِهِ أَنَّهُ نَبِيُّ" .
وجملة القول : أن الآية نزلت في اليهود
الجاحدين لِما أنزل الله ، فمن شاركهم في الجحد ؛ فهو كافر كفراً اعتقادياً ، ومن
لم يشاركهم في الجحد ؛ فكفره عملي لأنه عمل عملهم ، فهو بذلك مجرم آثم ، ولكن لا
يخرج بذلك عن الملة كما تقدم عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وقد
شرح هذا وزاده بياناً الإمام الحافظ أبو عبيد القاسم بن سلام في "كتاب
الإيمان" "باب الخروج من الإيمان بالمعـاصي" (ص 84-97 بتحقيقي) ،
فليراجعه من شاء المزيد من التحقيق .
وبعد كتابه ما سبق ، رأيت شيخ الإسلام ابن
تيمية رحمه الله يقول في تفسير آية الحكم المتقدمة في "مجموع الفتاوى"
(3 /268) :
"أَيْ هُوَ الْمُسْتَحِلُّ
لِلْحُكْمِ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ" .
ثم
ذكر (7 /254) أن الإمام أحمد سئل عن الكفر المذكور فيها ؟ فَقَالَ :
"كُفْرٌ لَا يَنْقُلُ عَنْ
الْمِلَّةِ([2])
، مِثْلَ الْإِيمَانِ بَعْضُهُ دُونَ بَعْضٍ ، فَكَذَلِكَ الْكُفْرُ حَتَّى
يَجِيءَ مِنْ ذَلِكَ أَمْرٌ لَا يُخْتَلَفُ فِيهِ" .
وقال (7 / 312 ) :
"وَإِذَا كَانَ مِنْ قَوْلِ السَّلَفِ
أنَّ الْإِنْسَانَ يَكُونُ فِيهِ إيمَانٌ وَنِفَاقٌ ، فَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِمْ
أنَّهُ يَكُونُ فِيهِ إيمَانٌ وَكُفْرٌ ؛ لَيْسَ هُوَ الْكُفْرُ الَّذِي يَنْقُلُ
عَنْ الْمِلَّةِ ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَصْحَابُهُ فِي قَوْله تَعَالَى ]وَمَنْ
لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ[ ، قَالُوا : كُفْراً لَا يَنْقُلُ عَنْ الْمِلَّةِ . وَقَدْ
اتَّبَعَهُمْ عَلَى ذَلِكَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ" .
قَالَ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( قوله: ]وَمَنْ
لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ[ ، ]وَمَنْ
لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ[ ، ]وَمَنْ
لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ[ ، قَالَ : هِيَ فِي الْكُفَّارِ كُلُّهَا ) .
"الصحيحة"
(2704) .
{ قَالَ شيخُنا الألباني في "الصحيحة"
(6 /الأول/457-458) } :
قلتُ
: والحديث دليل صريح في أن المقصود بهذه الآيات الثلاث ؛ الكفار من اليهود
والنصارى ؛ وأمثالهم الذين ينكرون الشريعة الإسلامية وأحكامها ، ويلحق بهم كل من
شاركهم في ذلك ؛ ولو كان يتظاهر بالإسلام ، حتى ولو أنكر حكماً واحداً منها .
ولكن
مما ينبغي التنبه له ، أنه ليس كذلك من لا يحكم بشيء منها مع عدم إنكاره ذلك ، فلا
يجوز الحكم على مثله بالكفر وخروجه عن الملة لأنه مؤمن ، غاية ما في الأمر أن يكون
كفره كفراً عملياً .
وهذه
نقطة هامة في هذه المسألة يغفل عنها كثير من الشباب المتحمس لتحكيم الإسلام ،
ولذلك فهم في كثير من الأحيان يقومون بالخروج على الحكام الذين لا يحكمون بالإسلام
، فتقع فتن كثيرة ، وسفك دماء بريئة لمجرد الحماس الذي لم تُعَد له عدته ، والواجب
عندي تصفية الإسلام مما ليس منه كالعقائد الباطلة ، والأحكام العاطلة ، والآراء
الكاسدة المخالفة للسنة ، وتربية الجيل على هذا الإسلام المصفى . والله المستعان .
وقد
مضى الكلام على هذه المسألة الهامة بشيء من التفصيل المفيد إن شاء الله تعالى تحت
الحديث المتقدم ( 2552 ) .
انتهى
الجمع من "الصحيحة" .
اختاره
ونقله /
أبو
فريحان جمال بن فريحان الحارثي.
18
/ 10 / 1424هـ
[1] قَولُه في الحديث : ( فَرَقاً
) : "الفَرَق بِالتَّحْرِيكِ : الخَوْف والفَزَع . يُقَالُ : فَرِقَ يَفْرَقُ
فَرَقاً . وَمِنْهُ حَدِيثُ أَبِي بَكْرٍ : "أبِاللهِ تُفَرِّقُنِي ؟" ؛
أَيْ : تُخَوِّفُني" . "النهاية" (3/438) .
[2] في الأصل في "الصحيحة" :
"الإيمان" مكان "الْمِلَّة" والتصويب من "الفتاوى" .