{ الابتعاد عن كل رأي يفرق
الجماعة }
قَالَ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (
الصَّوْمُ يَوْمَ تَصُومُونَ ، وَالْفِطْرُ يَوْمَ تُفْطِرُونَ ، وَالأَضْحَى
يَوْمَ تُضَحُّونَ ) . "الصحيحة" (224) .
{ قَالَ
شيخُنا الألباني (1/ الأول /443-445) } :
فقه الحديث :
قال الترمذي عقب الحديث {في "جامعه"
(3 / 80)} :
"وَفَسَّرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ
هَذَا الْحَدِيثَ ، فَقَالَ : إِنَّمَا مَعْنَى هَذَا : أَنَّ الصَّوْمَ
وَالْفِطْرَ مَعَ الْجَمَاعَةِ وَعِظَمِ النَّاسِ" .
وقال الصنعاني
في"سبل السلام" (2 / 72) {الخولي (2 / 489) ، و (2 / 134) ط. عطا} :
"فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ
يُعْتَبَرُ فِي ثُبُوتِ الْعِيدِ الْمُوَافَقَةُ لِلنَّاسِ ، وَأَنَّ
الْمُنْفَرِدَ بِمَعْرِفَةِ يَوْمِ الْعِيدِ بِالرُّؤْيَةِ يَجِبُ عَلَيْهِ
مُوَافَقَةُ غَيْرِهِ ، وَيَلْزَمُهُ حُكْمُهُمْ فِي الصَّلَاةِ ، وَالْإِفْطَارِ
، وَالْأُضْحِيَّةِ" .
وذكر معنى هذا ابن القيم رحمه الله
في"تهذيب السنن" (3 / 214) ، وقال :
"وَقِيلَ : فِيهِ الرَّدّ عَلَى مَنْ
يَقُولُ : إِنَّ مَنْ عَرَفَ طُلُوع الْقَمَر بِتَقْدِيرِ حِسَاب الْمَنَازِل ؛ جَازَ
لَهُ أَنْ يَصُوم وَيُفْطِر ؛ دُون مَنْ يَعْلَم . وَقِيلَ : إِنَّ الشَّاهِد
الْوَاحِد إِذَا رَأَى الْهِلَال ، وَلَمْ يَحْكُم الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِ : أَنَّهُ
لَا يَكُون هَذَا لَهُ صَوْماً , كَمَا لَمْ يَكُنْ لِلنَّاسِ" .
وقال أبو الحسن السندي في"حاشيته على ابن
ماجة" {ط. الجيل ، والفكر الثانية (1 / 509)} بعد أن ذكر حديث إبي هريرة عند
الترمذي :
"وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ
هَذِهِ الْأُمُورَ لَيْسَ لِلْآحَادِ فِيهَا دَخْلٌ ، وَلَيْسَ لَهُمُ
التَّفَرُّدُ فِيهَا ، بَلِ الْأَمْرُ فِيهَا إِلَى الْإِمَامِ وَالْجَمَاعَةِ ،
وَيَجِبُ عَلَى الْآحَادِ اتِّبَاعُهُمْ لِلْإِمَامِ وَالْجَمَاعَةِ ، وَعَلَى
هَذَا ؛ فَإِذَا رَأَى أَحَدٌ الْهِلَالَ ، وَرَدَّ الْإِمَامُ شَهَادَتَهُ ؛
يَنْبَغِي أَنْ لَا يَثْبُتَ فِي حَقِّهِ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ ،
وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتْبَعَ الْجَمَاعَةَ فِي ذَلِكَ" .
قلت : وهذا المعنى هو المتبادر من الحديث ،
ويؤيده احتجاج عائشة به على مسروق حين امتنع من صيام يوم عرفة ؛ خشية أن يكون يوم
النحر ، فبينت له أنه لا عبرة برأيه ، وأن عليه اتباع الجماعة ، فقالت :
"النَّحْرُ يَوْمَ يَنْحَرُ النَّاسُ ،
وَالْفِطْرُ يَوْمَ يُفْطِرُ النَّاسُ". {"الكبرى" للبيهقي (4 / 252)}.
قلت : وهذا هو اللائق بالشريعة السمحة التي
من غايتها تجميع الناس وتوحيد صفوفهم ، وإبعادهم عن كل ما يفرِّق جمعهم من الآراء
الفرديَّة ، فلا تعتبر الشريعة رأي الفرد - ولو كان صواباً من وجهة نظره - في
عبادة جماعية كالصوم والتعييد وصلاة الجماعة ، ألا ترى أن الصحابة y كان يصلي بعضهم وراء بعض وفيهم مَن يرى أن مس المرأة والعضو وخروج الدم
من نواقض الوضوء ، ومنهم مَن لا يرى ذلك ، ومنهم من يتمُّ في السفر ، ومنهم من
يقصر ؟! فلم يكن اختلافهم هذا وغيره ليمنعهم من الاجتماع في الصلاة وراء الإمام
الواحد ، والاعتداد بها ، وذلك لعلمهم بأن التفرُّق في الدين شرُّ من الاختلاف في
بعض الآراء ، ولقد بلغ الأمر ببعضهم في عدم الاعتداد بالرأي المخالف لرأي الإمام
الأعظم في المجتمع الأكبر كـ"منى" ، إلى حد ترك العمل برأيه إطلاقاً في
ذلك المجتمع ؛ فراراً ممَّا قد ينتج من الشر بسبب العمل برأيه ، فروى أبو داود (1 /
307) {(رقم 1960)} :
"أَنَّ
عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
صَلَّى بِمِنىً أَرْبَعاً ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ مُنْكِراً
عَليْهِ : صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكْعَتَيْنِ ، وَمَعَ أَبِي بَكْرٍ رَكْعَتَيْنِ ،
وَمَعَ عُمَرَ رَكْعَتَيْنِ ، وَمَعَ عُثْمَانَ صَدْراً مِنْ إِمَارَتِهِ ثُمَّ
أَتَمَّهَا . ثُمَّ تَفَرَّقَتْ بِكُمُ الطُّرُقُ ؛ فَلَوَدِدْتُ أَنَّ لِي مِنْ
أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ رَكْعَتَيْنِ مُتَقَبَّلَتَيْنِ . إِنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ
صَلَّى أَرْبَعاً ! فَقِيلَ لَهُ : عِبْتَ عَلَى عُثْمَانَ ثُمَّ صَلَّيْتَ
أَرْبَعاً ؟ قَالَ : الْخِلاَفُ شَرٌّ" . وسنده صحيح .
وروى
أحمد (5 / 155) نحو هذا عن أبي ذر رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُم أجمعين .
فليتأمل في هذا الحديث وفي الأثر المذكور
أولئك الذين لا يزالون يتفرَّقون في صلواتهم ، ولا يقتدون ببعض أئمة المساجد ، وخاصة
في صلاة الوتر في رمضان ، بحجَّة كونهم على خلاف مذهبهم ! وبعض أولئك الذين
يدَّعون العلم بالفلك ، ممن يصوم ويفطر وحده ؛ متقدماً أو متأخراً على جماعة
المسلمين ؛ معتدّاً برأيه وعلمه ، غير مبال بالخروج عنهم .
فليتأمل هؤلاء
جميعاً فيما ذكرناه من العلم ، لعلهم يجدون شفاءً لما في نفوسهم من جهل وغرور ،
فيكونون صفاً واحداً مع إخوانهم المسلمين ؛ فإن يد الله على الجماعة . انتهى من
"الصحيحة" .
قلتُ
:
في
عبارة شيخنا الألباني : "فإن يد الله على الجماعة" ؛ جاء الأثر مرفوعاً
عن عمر وأسامة بن شريك وسمرة وخباب وابن عمر وعجرفة والخدري وابن عباس رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُم قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "يَدَ اللَّهِ
عَلَى الْجَمَاعَةِ" .
رواه
البخاري في "التاريخ الكبير" (7 / 313) ، ابن أبي عاصم (80، 81) ،
والبزار (10 / 436) ، والنسائي "الصغرى" (7 / 92) و"الكبرى"(2
/ 292) ، والطبراني "الكبير" (1 / 186 / 489) ، (4 / 81 / 3709) ، (12 /
447 / 13623) ، (17 / 144، 145 / 362، 368) و "الأوسط" (5/122) ،
(7/193) ، والحاكم في "المستدرك" (1/115، 116) ، والشهاب في
"المسند" (1 / 157 / 239) ، و البيهقي في "الشعب" (7 / 488 / 11085)
و"الأسماء والصفات" (2 / 246) ، و"البغوي في "شرح السنة"
(1 / 215) . والحديث صححه الحاكم ، والألباني بشواهده في "ظلال الجنة"
(81) ، و"صحيح سنن النسائي"
(3753) ، و"صحيح الجامع" (1844، 7921) ط. الأولى 1388هـ
"المكتب الاسلامي" .
وجاء عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّه قَالَ : "يَا أَيُّهَا النَّاسُ ! عَلَيْكُمْ
بِالطَّاعَةِ وَالْجَمَاعَةِ ، فَإِنَّهَا حَبْلُ اللَّهِ الَّذِي أَمَرَ بِهِ ،
وَإِنَّ مَا تَكْرَهُونَ فِي الْجَمَاعَةِ خَيْرٌ مِمَّا تُحِبُّونَ فِي
الْفُرْقَةِ " . وسنده حسن .
رواه
الطبري في "التفسير" (3 / 380 / 7577) ط. الكتب العلمية" الأولى
1412هـ و(4 / 32) ط. "الفكر" 1405هـ ، وابن أبي حاتم في
"التفسير" (3 / 733) تح. أسعد ، والطبراني "الكبير" (9 / 224 /
8972) ، والآجري في "الشريعة" (ص 23) تح. الفقي و(1 / 123 / 17) تح.
الوليد و(1 / 299 / 17) تح. الدميجي ، والحاكم (4 / 555) -
وصححه ووافقه الذهبي- ، والللاكائي في"اعتقاد أهل
السنة" (1 / 108 / 159) ، وأبو نُعيم في "الحلية" (9 / 249) ،
و"البغوي في "شرح السنة" (10 / 54) .
وهنا
أثر عزيز وقفت عليه وإن كان يحكي حكماً فقهياً ، ولكن الملفت فيه هو قول عبيدة
السلماني في الحديث وهو الشاهد هنا في مسألة الجماعة وعدم الفرقة .
فعَنْ
عَبِيدَةَ السَّلْمَانِيِّ قَالُ : "سَمِعْتُ عَلِيّاً يَقُولُ :
"اجْتَمَعَ رَأْيِّي وَرَأْيُ عُمَرَ فِي أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ أَنْ لَا
يَبِعْنَ" ، قَالَ : "ثُمَّ رَأَيْتُ بَعْدُ أَنْ يَبِعْنَ" .
قَالَ
عُبَيْدَةُ : فَقُلْتُ لَهُ : فَرَأْيُكَ وَرَأْيُ عُمَرَ فِي الُجَمَاعَةِ
أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ رَأْيِكَ وَحْدَكَ فِي الْفِرْقَةِ ، قَالَ : فَضَحِكَ
عَلِيٌّ" .
أخرجه
عبد الرزاق في "المصنف" (11 / 291 / 13224) ، وابن شبة في "أخبار
المدينة" (1 / 386) ط. "الكتب العلمية" 1417هـ تح. دندل و بيان .
قال
الحافظ ابن حجر في "التلخيص" (4/219) و"الدراية تخريج
الهداية" (2/88) : "وهَذَا الإِسْنَادُ مَعدُودٌ في أصَحِّ
الأَسَانِيدِ" ، ووافقه الألباني بنقله والاستشهاد به في "الصحيحة"
(5/543) ، وأخرجه البيهقي في "الكبرى" (10 / 343) ، وابن أبي شيبة (6 / 436
/ 1631) ط. الهند و(4 / 409 / 21590) تح. الحوت.
والشاهد
منه : قَالَ ابْنُ سِيرِينَ : قُلْتُ لِعَبِيدَةَ : مَا تَرَى ؟ قَالَ :
"رَأْيُ عُمَرَ وَعَلِيٍّ فِي الْجَمَاعَةِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ قَوْلِ
عَلِيٍّ حِينَ أَدْرَكَ الْخِلَافَ" .
فهذا
السَّلْمَانيِّ رأى رَأْيُ عُمَرَ وَعَلِيٍّ فِي الْجَمَاعَةِ خير من قول عليٍّ
لوحدة ، وأقرّه عليٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بضحكه . فيا ليتنا نتعلم منهم العمل !
انتقاه وقيّده /
أبو فريحان جمال بن فريحان الحارثي .
6 / 1 / 1426هـ