الرَّد الراسي على صالح المغامسي
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه أجمعين .
أما بعد :
فقد تناقلت بعض الصحف ومواقع النت والتواصل الاجتماعي وقنوات فضائية صوتياً وكتابياً أقوال وآراء للمدعو / صالح المغامسي .
ومن أقوال المغامسي تلك في "مسألة الغناء والموسيقى" :
قال :
"أرى أنه يُفرق بين الموسيقى وما بين الموسيقى المصحوبة بالغناء ، .. ما يُعرف بالموسيقى - فإن غالب الظن - أن ما يُعرف بالموسيقى العسكرية أو الموسيقى التي يؤتى بها في الفواصل ؛ كما في نشرات الأخبار ، أو ما أشبه ذلك ، مثل ما يُعرف بالسلام الملكي ، بالسلام الجمهوري ، بالسلام الأميري ؛ فهذه كلها من الصعب في ظني إدراجها في المحرّمات ، لكن ما يُعرف بالغناء ، سواء كان في محفل أو في غير محفل ، هذا الذي يُحرك العواطف ويُثير الغرائز، ولا يخفى أثره على الناس رجالاً ونساءً ؛ هذا لا ارتياب عندي في حرمته . لكنني أقول بوضوح : لم يتبين لي حرمة ما يُعرف بالموسيقى المختلفة عن هذا الغناء ، بمعنى ما يُعرف بالفواصل التي في نشرات الأخبار ، والموسيقى العسكرية، ما يُعرف بالسلام الملكي وأمثال ذلك ، لا أجرؤ على القول بحرمته" .
وقال المغامسي في مقامٍ آخر :
"لو أراد الله - أتكلم هنا عن الموسيقى على العموم - لجاءت آية وقُضي الأمر (ولا تقربوا المعازف) ، لكن لم يأت هذا ، لكن هذه الآية - "لهو الحديث" هو الغناء – تحتمل ؟ نعم تحتمل .. لكن ليس عليها إجماع" .
وقال المغامسي في تقرير تحريم الغناء دون الموسيقى في مقام آخر :
"لو قلنا بترجيح – قوله تعالى { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ } - أنها ليست منصرفة إلى الغناء ، فإنه قد عُرف تحريم الغناء من حديثٍ آخر ، واضح ؟
يعني : أحياناً قد لا تكون آية حجة لهذا القول ، لكن لا يعني أن الحجة انقطعت عن هذا الأمر ، تكون الحجة في دليلٍ آخر كما في البخاري معلقٌ بضيغة الجزم ، حديث أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبر : ( .. يَسْتَحِلُّونَ الحِرَ وَالحَرِيرَ ، وَالخَمْرَ وَالمَعَازِفَ) ، الحِر كناية عن الزنا ، والحرير محرمٌ بالنص ، والخمر محرمٌ بالكتاب والسنة ، والمعازف المراد بها : الغناء" .
انتهى النقل من كلام المغامسي .
الوقفات :
تمهيد : خلاصة حديث المغامسي في الموسيقى والغناء : أنه يفرق بين الموسيقى والغناء في الحكم ، فيحرم الغناء الموجود اليوم ، ولا يرى حرمة الموسيقى في فواصل نشرات الأخبار ونحوها ، والموسيقى العسكرية والسلام ..الخ .
وتبيَّن أيضاً أنه لم يأخذ تحريم الغناء من القرآن بل أخذه من الحديث ، والموسيقى لم يجد لها تحريماً لا في الكتاب ولا في السنة !
الوقفة الأولى : تساؤل للمغامسي !
أخذت تحريم الغناء من الحديث : (لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ ، يَسْتَحِلُّونَ الحِرَ وَالحَرِيرَ ، وَالخَمْرَ وَالمَعَازِفَ) .
علقه البخاري في "صحيحه" (5268) . وأخرجه أبو داود (4039) موصولاً ، وغيره . وصححه الألباني.
السؤال مطروح للمغامسي : أين ذُكر "الغناء" في هذا الحديث ؟!
لم أرى في الحديث سوى لفظة : (المـَعَازِفَ) ؛ الدّالة على آلات الطرب !
ومن المعلوم لدى كل ذي لبٍ ؛ أنّ "المَعَازِفَ" في الحديث أقرب إلى تحريم الموسيقى منها للغناء .
فلماذا جعلت الحديث دليل على تحريم الغناء ولم تجعله دليل على تحريم الموسيقى ؛ والتي هي كلها صوت للمعازف التي في الحديث بأي نوع كانت ؟!
إنه لفقه غريب واستنتاج أغرب .
لو قلتَ : العكس . لربما سلّمنا لك جدلاً ويكون موقفك أقوى في الاستدلال بالحديث بـ(المـَعَازِفَ) على تحريم الموسيقى دون الغناء .
ولعل المغامسي يبين لنا ؛ وجه تحريمه للغناء في الحديث ؛ أهو من أجل أنّه "يُحرك العواطف ويُثير الغرائز" بسبب الكلمات ، أم بسبب الموسيقى المصاحبة للكلمات والتي لا تعتبرها أنت معازف ؟ فسبحان الله كيف تكون موسيقى دون معازف ؟!
أم بسبب (المـَعَازِفَ) : آلات الطرب ؟
فأيّ الأجوبة كان جاوبه ؛ فأحلاهُم مرّ .
فإن قال : بسبب ما يُحرك العواطف ويُثير الغرائز من كلمات الأغاني !
فيرُدُّ عليه أحدُهم ، فيقول : الحديث لم يذكر سبب التحريم أو العلّة هو الكلام المثير للغرائز .
فما هو جوابك على هذا الرد أخي المغامسي ؟
وإن قال المغامسي : سبب تحريمي للأغاني هو الموسيقى المصاحبة للكلمات .
فيرُد عليه آخر فيقول : وقعت في شرِّ أقوالك المتناقضة . فما الذي أحدث صوت الموسيقى هذه ؟
فإن قال : تُحدثها آلات اللهو والطرب .
فيقال له : سقطت على رأسك . فكيف تحرم الأغاني بسبب وجود أصوات آلات الطرب والمعبر عنها في الحديث بـ(المـَعَازِفَ) وأنت لا تُحرِّم الموسيقى التي هي من أصوات آلات الطرب ؟ وعندها لا حاجة لنا في أن يجيب عن الاحتمال الثالث من الأسباب .
فنجد المغامسي متقلب ولم يستقر على قول واحد ، فتارة لم يجد في القرآن تحريم الغناء ، وتارة لم يجد تحريم الموسيقى لا في القرآن ولا في الحديث ، وتارة أخذ تحريم الغناء من الحديث دون الموسيقى ، فكأن الغناء عنده شيء والموسيقى شيء آخر .
ولا غضاضة في ذلك فقد تقلب قبله إمامه في ذلك وكان قد يستشهد بقوله ؛ ألاَ هو علي بن حزم الأندلسي ، وقد ردّ عليه إمام المحدثين في هذا العصر محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله في الكتاب الموسوم بـ"الرد بالوحيين وأقوال أئمتنا على ابن حزم ومقلديه المبيحين للمعازف والغنا وعلى الصوفيين الذين اتخذوه قربة ودينا" ، والمشهور باسم "تحريم آلات الطرب" .
ولو أن المغامسي أخذ بأقوال العلماء الموثوق بهم من أهل السّنة في هذا العصر ومَن مضى من السلف وترك التفرد وحب الظهور لكان خيراً له ، فهذا إمام أهل السنة في عصره ابن باز رحمه الله يقول ؛ وكأنه يرد على المغامسي وأمثاله المجيزين للموسيقى اليوم :
"الموسيقى وغيرها من آلات اللهو ؛ كلها شر وبلاء ، ومما يزين الشيطان التلذذ به والدعوة إليه حتى يشغل النفوس عن الحق بالباطل ، وحتى يلهيها عما أحب الله إلى ما كره الله وحرم .
فالموسيقى والعود وسائر أنواع الملاهي ؛ كلها منكر ولا يجوز الاستماع ، وقد صح عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال : (لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ، يَسْتَحِلُّونَ الحِرَ وَالحَرِيرَ، وَالخَمْرَ وَالمَعَازِفَ) . والحر هو : الفرج الحرام - يعني الزنا - والمعازف هي : الأغاني وآلات الطرب" .
"مجموع الفتاوى والرسائل" (3 / 436، 21 / 152) .
وسئل سماحة الشيخ ابن باز :
ما حكم استماع بعض البرامج المفيدة كأقوال الصحف ونحوها التي تتخللها الموسيقى؟ ل - ع - م – الرياض .
الجواب : "لا حرج في استماعها والاستفادة منها مع قفل المذياع عند بدء الموسيقى حتى تنتهي ، لأن الموسيقى من جملة آلات اللهو يسر الله تركها والعافية من شرها" .
وقال : "المعازف محرمة ، وهي : الأغاني وآلات اللهو" .
"الفتاوى" (6 / 389، 390) .
وقال في موضع آخر :
"و {لَهْوَ الْحَدِيثِ} هو : الغناء ؛ كما قال جمهور أهل العلم . قال أكثر أهل العلم من المفسرين وغيرهم : إنه الغناء ، فإذا كان معه آلة عزف ؛ - كالعود أو الكمان أو الدف أو الطبل - ؛ كان التحريم أشد ، وكان الإثم أكبر ، فلا يجوز ذلك لا للمرأة ولا للرجل، تعاطي ذلك سواء كان ذلك في التلفاز أو في الإذاعة أو في المسجلات وغير ذلك، وفي الفيديو كل هذا ممنوع" .
"فتاوى نور على الدرب" (14 / 455) .
وأشد من ذلك وأقرب في الرد على المغامسي في تقسيمه وتفصيله الموسيقى الحلال والموسيقى المحرمة ؛ ما قاله إمام عصره شيخنا ابن باز :
"لا نعلم في الموسيقى وغيرها من آلات الملاهي تفصيلاً ، بل كلها ممنوعة وكلها من اللهو المحرم ، وكلها من وسائل إفساد القلوب ومرض القلوب والصد عن الخير ، فالواجب تركها لقوله جل وعلا في كتابه العظيم : {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [سورة لقمان] .
فالعلماء رحمة الله عليهم ذكر أكثرُهم في هذه الآية : أن المراد بلهو الحديث هو الغناء ، وما يصحب ذلك من آلات اللهو ، فالواجب على أهل الإسلام ترك ذلك ، وأن لا يتأسوا بالكفرة في هذه الأمور ولا في غيرها ، فالموسيقى والعود والكمان وسائر أنواع الملاهي كلها ممنوعة ؛ وكلها من المعازف التي ذمها الرسول وعابها ، وهكذا الأغاني كلها من المعازف يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح : (ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحِرَ والحرير والخمر والمعازف) .
رواه البخاري في "الصحيح"." . انتهى .
المصدر "صوتياً" أيضاً في هذا الرابط :
http://www.binbaz.org.sa/noor/9311
وسئل شيخنا بقية السلف صالح بن فوزان الفوزان حفظه الله :
فضيلة الشيخ : وفقكم الله ، أسئلة كثيرة وردت عن موضوعٍ واحد ، وهي أنه قد انتشر في هذه الأيام فتوى بجواز الموسيقى ، اليسيرة في الأخبار والبرامج ، وأنها لا تثير الغرائز ، يقول : ما رأيكم في هذه الفتوى ؟
الجواب :
"النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حرّم المعازف والمزامير ، وأجمع العلماء على ذلك ، كما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية ، فلا يجوز لأحدٍ أن يستثني شيئاً منها ، ويخصصه بالإباحة ، والرسول ينهى عن ذلك ويحرمه ؛ فلا يجوز هذا ، ما في الموسيقى شيء حلال ، ولا في المعازف وآلات اللهو شيء حلال . نعم" .
فرّغته بنفسي من "درسه في الرياض" ملف صوتي .
الوقفة الثانية :
قال المغامسي : "لو أراد الله - أتكلم هنا عن الموسيقى على العموم - لجاءت آية وقُضي الأمر (ولا تقربوا المعازف)" .
قلتُ : هذا كلام خطير وفتح باب شرٍ على مصراعيه لكل متكلم ومتشدق ، فهل كل ما جاء تحريمه في الشريعة أو تحليله للعباد ؛ جاء ذلك في القرآن صراحة ؟ !
إنّ هذا لشيء عجاب ويُراد !
فسيأتي آتٍ ويقول فلسفة وتشدّقاً : إن الله لم يفرض علينا صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر في كتابه العزيز ، ولو أراد فرضيتها علينا لأمرنا بها صراحة وانتهى الأمر ؛ وقال : {صلوا الظهر و ....! وهلمجر ..
فهل نُسلِّم بهذا ونجعل ديننا عرضاً ؛ ونُعْرِض عن الوحي الثاني "السُّنة" ؟
وأقول للمغامسي هدانا الله وإياه جميعاً لكل خير :
إن الله تعالى لم يُنزل آية فيها ذِكر : (ولا تقربوا الغناء) على منهجك ؛ فلماذا قبِلتَ الحديث كدليل على تحريم الغناء ولم تقبل نفس الحديث دليلاً على تحريم الموسيقى ؟
والتي أصلها نابع من آلات اللهو التي عبّر عنها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث بكلمة مجملة مستوعِبة (المَعَازِفَ) وهي كل آلة لهو كانت أو التي تأتي ؛ وهو الذي أوتي جوامع الكلم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فبدون هذه الآلات لا تكون موسيقى .
و (الـمَعازِفُ) : المـَلاهي : وَهِيَ آلَاتٌ يُضْرَبُ بِهَا ؛ كالعودِ والطُّنْبُورِ ، الواحِدُ : عُزْفٌ أَو مِعْزَفٌ .
وَالْعَازِفُ : اللَّاعِبُ بِهَا . "اللسان" (9 / 244) ، و "المصباح المنير" (2 / 407) ، و "القاموس" (ص 837) .
الوقفة الثالثة :
في قول المغامسي :
"ما يُعرف بالغناء ، سواء كان في محفل أو في غير محفل ، هذا الذي يُحرك العواطف ويُثير الغرائز ؛ ولا يخفى أثره على الناس رجالاً ونساءً ؛ هذا لا ارتياب عندي في حرمته" .
أقول : هل هذا الغناء الذي ترى تحريمه غِناءٌ مجرد أم مصحوباً بآلات اللهو والطرب؟
فقد تركتَ المسألة عائمة ، وهذه طريقة لإيجاد المخارج ؛ طريقة معروف !
فكلامك يا "المغامسي" يُحتمل أنك تعني به الشعر المجرد من غير آلات عزف ، وهذا يُفهم من عبارتك : "الذي يُحرك العواطف ويُثير الغرائز" . ونُسلِّم لك في هذا ولكن كان يحتاج منك تفصيلاً فيه سيأتي ؛ لأن الغناء ؛
في اللغة ممدود : الصَّوْت . و "كُلُّ مَنْ رَفَع صَوْته ووالاَه فصَوْته عِنْدَ الْعَرَبِ غِنَاء .
وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ : "وَعِنْدِي جَارِيَتَانِ تُغَنِّيَان بِغِنَاء بُعَاث" ؛ أَيْ : تُنْشِدان الأشْعار الَّتِي قِيلت يَوْمَ بُعاث ، وَهُوَ حَرْب كَانَتْ بَيْنَ الْأَنْصَارِ ، وَلَمْ تُرِد الغِنَاء الْمَعْرُوفَ بَيْنَ أهْل اللَّهو واللَّعِب . وَغِنَاء الْأَعْرَابِ : وَهُوَ صَوْتٌ كالحُداء" . "النهاية" (3 / 391، 392) .
"غنَّى بالشِّعر : تغنَّى به ؛ ترنَّم بالكلام .
وغِناء : مصدر غنَّى : تطريب ، وترنُّم بكلام موزون وغيره ، يكون مصحوباً بالموسيقى أو غير مصحوب" . "معجم اللغة العربية" .
فلو أنك فصّلت في "الغِناء" كما فصّلت وقسّمت "الموسيقى" تقسيماً باطلاً ؛ حتى يتبين للمتابع مذهبك ومقصدك في "الغِناء" ؛ أهو الشعر المجر "الذي يُحرك العواطف ويُثير الغرائز" فحسب أم لابد من اصطحاب آلات الطرب ؟ لأنه ليس كل غِناءٍ محرماً ؛ كما تبين لنا في اللغة عند أهل اللغة .
ويُحتمل أنك تقصد به غناء مصحوباً بآلات الطرب ؛ وهذا يؤخذ من سياق حديثك هنا وهناك وأنت تتكلم عن الموسيقى وتفريقك فيها إن كانت في الاحتفالات والمحافل أو في نشرات الأخبار ونحوها . ونوافقك على تحريمك للغناء في المحافل المصحوب بالموسيقى .
ولكن ما هي آلات الطرب ؛ غير أنها "المعازِف" حينما أخرجتها من تحريم الموسيقى في نشرة الأخبار والعسكرية والسلام ..؟
ولكن الكلام العائم والفضفاض ؛ يجعل لصاحبه مخرجاً إذا ما رَدّ عليه أهل العلم .
وفي هذا المعنى ؛ أنقل كلاماً نفيساً للإمام القرطبي في تفسيره فقال :
"قوله تعالى : {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} ؛ {مِنَ} فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ. وَ {لَهْوَ الْحَدِيثِ} : الْغِنَاءُ ، فِي قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمَا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : وَهُوَ الْغِنَاءُ الْمُعْتَادُ عِنْدَ الْمُشْتَهِرِينَ بِهِ ؛ الَّذِي يُحَرِّكُ النُّفُوسَ ، وَيَبْعَثُهَا عَلَى الْهَوَى وَالْغَزَلِ ، وَالْمُجُونُ الَّذِي يُحَرِّكُ السَّاكِنَ وَيَبْعَثُ الْكَامِنَ ، فَهَذَا النَّوْعُ إِذَا كَانَ فِي شِعْرٌ يُشَبَّبُ فِيهِ بِذِكْرِ النِّسَاءِ وَوَصْفِ مَحَاسِنِهِنَّ ، وَذِكْرِ الْخُمُورِ وَالْمُحَرَّمَاتِ ؛ لاَ يُخْتَلَفُ فِي تَحْرِيمِهِ ؛ لِأَنَّهُ اللَّهْوُ وَالْغِنَاءُ الْمَذْمُومُ بِالِاتِّفَاقِ .
فَأَمَّا مَا سَلِمَ مِنْ ذَلِكَ فَيَجُوزُ الْقَلِيلُ مِنْهُ فِي أَوْقَاتِ الْفَرَحِ ، كَالْعُرْسِ وَالْعِيدِ وَعِنْدَ التَّنْشِيطِ عَلَى الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ ، كَمَا كَانَ فِي حَفْرِ الْخَنْدَقِ وَحَدْوِ أَنْجَشَةَ ، وَسَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ .
فَأَمَّا مَا ابْتَدَعَتْهُ الصُّوفِيَّةُ الْيَوْمَ مِنَ الْإِدْمَانِ عَلَى سَمَاعِ الْمَغَانِي بِالْآلَاتِ الْمُطْرِبَةِ مِنَ الشَّبَّابَاتِ ، والطار ، والمعازف ، والأوتار ؛ فحرام" . "تفسير القرطبي" (14 / 51، 54) .
ونقله شيخنا ابن باز رحمه الله مستحسنه ؛ فقال عقبه :
"وهذا الذي قاله القرطبي كلام حسن ، وبه تجتمع الآثار الواردة في هذا الباب، ومن ذلك ما ثبت في الصحيحين عن عائشة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قالت : "دخل علي النبي وعندي جاريتان تغنيان بغناء بعاث ، فاضطجع على الفراش وحول وجهه ، ودخل أبو بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فانتهرني ، وقال : مزمار الشيطان عند النبي ، فأقبل عليه رسول الله ، فقال : (دعهما) فلما غفل غمزتهما فخرجتا" .
وفي رواية لمسلم: "فقال رسول الله: (يا أبا بكر ! إن لكل قوم عيداً ، وهذا عيدنا).
فهذا الحديث الجليل يستفاد منه : أن كراهة الغناء وإنكاره وتسميته مزمار الشيطان أمر معروف مستقر عند الصحابة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم ؛ ولهذا أنكر الصديق على عائشة غناء الجاريتين عندها ، وسماه مزمار الشيطان ، ولم ينكر عليه النبي تلك التسمية ، ولم يقل له : إن الغناء والدف لا حرج فيهما ، وإنما أمره أن يترك الجاريتين ، وعلل ذلك بأنها أيام عيد ، فدل ذلك على أنه ينبغي التسامح في مثل هذا للجواري الصغار في أيام العيد ؛ لأنها أيام فرح وسرور ، ولأن الجاريتين إنما أنشدتا غناء الأنصار الذي تقاولوا به يوم بعاث ؛ فيما يتعلق بالشجاعة والحرب ، بخلاف أكثر غناء المغنين والمغنيات اليوم ، فإنه يثير الغرائز الجنسية ، ويدعو إلى عشق الصور ، وإلى كثير من الفتن الصادة للقلوب عن تعظيم الله ومراعاة حقه" .
"مجموع الفتاوى" (3 / 397-398 21 / 111-112) .
وقالت اللجنة الدائمة "السؤال الأول من الفتوى" رقم (2768) "عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز":
"وقد فسر أهل العلم { لَهْوَ الْحَدِيثِ} : باتخاذ آلات اللهو ، ولقوله صلى الله عليه وسلم : (ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف) . الحديث رواه البخاري .
والمعازف تشمل : الموسيقى وغيرها من آلات اللهو" . (26 / 244) .
فإذا لم يتبين لك يا أخ "صالح المغامسي" ولم تفهم كلام أهل العلم في ذلك ، فارجع إلى أهل العلم المعاصرين واجلس إليهم ، واثن ركبتيك عندهم في حلقات دروسهم ؛ كي تتعلم وتنضج ؛ حتى لا تَضل ولا تُضِل .
فالحذر عباد الله من الفتاوى المضلة وآراء الرجال المهلكة التي لم تُبن على نصوص من كتاب الله وسنة نبيّه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ولا قال بها جمهور أهل العلم الأمناء .
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (إِنَّمَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي الْأَئِمَّةَ الْمُضِلِّينَ) .
رَوَاهُ أحمدُ (5 / 278، 284) و (4 / 123) ، والدّارمي (1 / 80 / 209، 211) تح. زمرلي ، وأَبُو دَاوُد (4252) ، والترمذيُّ (2229) ، وابْنُ ماجَه (3952) ، وابن حبّان (4570، 6714). من حديث ثَوْبَانَ ، وشَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ عند بعضهم .
وصححه الألباني في "المشكاة" (5394) ، و "الصحيحة" (1582) ، و "صحيح الجامع" (1773، 2316) .
وَعَنْ زِيَادِ بْنِ حُدَيْرٍ قَالَ : قَالَ لِي عُمَرُ : "هَلْ تَعْرِفُ مَا يَهْدِمُ الإِسْلاَمَ ؟ قُلْتُ : لاَ . قَالَ : يَهْدِمُهُ زَلَّةُ الْعَالِمِ ، وَجِدَالُ الْمُنَافِقِ بِالْكِتَابِ ، وَحُكْمُ الأَئِمَّةِ الْمُضِلِّينَ" .
رَوَاهُ الدِّرَامِي (1 / 82 / 214) .وصححه الألباني في "المشكاة" (269) .
رَوَاهُ الدِّرَامِي (1 / 82 / 214) .وصححه الألباني في "المشكاة" (269) .
فلا تغتر أيها المسلم بالشّاذ من القول وضلالات المفتين فقد "رَوَى سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ أَبِي الصَّهْبَاءِ الْبَكْرِيِّ قَالَ : سُئِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى :
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} ؛ فَقَالَ : "الْغِنَاءُ وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ، يُرَدِّدُهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ" .
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ الْغِنَاءُ ، وَكَذَلِكَ قَالَ عِكْرِمَةُ وَمَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ وَمَكْحُولٌ .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: "إِنَّ لَهْوَ الْحَدِيثِ فِي الْآيَةِ: الِاسْتِمَاعِ إِلَى الْغِنَاءِ وَإِلَى مِثْلِهِ مِنَ الْبَاطِلِ" .
وَقَالَ الْحَسَنُ : لَهْوُ الْحَدِيثِ الْمَعَازِفُ وَالْغِنَاءُ .
وَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ : الْغِنَاءُ بَاطِلٌ وَالْبَاطِلُ فِي النَّارِ .
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : سَأَلْتُ مَالِكاً عَنْهُ ، فَقَالَ :
قَالَ الله تعالى: {فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ} -[يونس : 32]- أَفَحَقٌّ هُوَ ؟!" .
"تفسير القرطبي" (14 / 52) .
فاللهم اهدي ضال المسلمين ، واكفنا أقوال الأئمة المضلين .
كتبه /
أبو فريحان جمال بن فريحان الحارثي .
22 / 8 / 1437ه