عن الحسن -رحمه الله- أن عمر -رضي الله عنه- كان يقول:
"اللّهُمّ اجعل عملي صالحًا، واجعله لك خالصًا، ولا تجعل لأحد فيه
شيئًا". {رواه أحمد في "الزهد" (118)}



الخميس، 14 يوليو 2016

فحيّوا بأحسن منها



فحيّوا بأحسن منها



قَالَ تَعَالَى : ]وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا[ [النساء : 86] .

"يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ : إِذَا دُعِيَ لَكُمْ بِطُولِ الْحَيَاةِ وَالْبَقَاءِ وَالسَّلَامَةِ ؛ فَادْعُوا لِمَنْ دَعَا لَكُمْ بِذَلِكَ بِأَحْسَنَ مِمَّا دَعَا لَكُمْ , أَوْ رُدُّوا التَّحِيَّةَ" .     "تفسير الطبري" .


قلتُ : وظاهر الآية يقتضي أنه لا يجوز الاقتصار على قوله : وَعَلَيْكُمُ السَّلَامُ .

قال البغوي :
"وَالْمُرَادُ بِالتَّحِيَّةِ هَاهُنَا السَّلَامُ ، يَقُولُ: إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ مُسْلِمٌ ؛ فأجيبوا بأحسن مما سلم أو ردّوها ؛ أي : ردوا كَمَا سَلَّمَ ، فَإِذَا قَالَ : السَّلَامُ عَلَيْكُمْ ، فَقُلْ : وَعَلَيْكُمُ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ ، وَإِذَا قَالَ : السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ ، فَقُلْ : وَعَلَيْكُمُ السَّلَامُ ورحمة الله وبركاته.
وَاعْلَمْ أَنَّ السَّلَامَ سَنَّةٌ ؛ وَرَدَّ السَّلَامِ فَرِيضَةٌ ، وَهُوَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ ، وَكَذَلِكَ السَّلَامُ سَنَةٌ عَلَى الْكِفَايَةِ ، فَإِذَا سَلَّمَ وَاحِدٌ مِنْ جَمَاعَةٍ كَانَ كَافِياً في السنة ، إذا سَلَّمَ وَاحِدٌ عَلَى جَمَاعَةٍ وَرَدَّ واحد منهم سقط الغرض عَنْ جَمِيعِهِمْ" .
"تفسير البغوي" (1 / 669-670) .


قَالَ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ : السَّلَامُ تَطَوُّعٌ ، والرد فريضة .
قال ابن كثير في "تفسيره" عقبه :
"وهذا الذي قال هُوَ قَوْلُ الْعُلَمَاءِ قَاطِبَةً، أَنَّ الرَّدَّ وَاجِبٌ عَلَى مَنْ سُلِّمَ عَلَيْهِ، فَيَأْثَمُ إِنْ لَمْ يَفْعَلْ، لِأَنَّهُ خَالَفَ أَمْرَ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ : ]فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا[" . انتهى .


و"اعْلَمْ أَنَّ عَادَةَ الْعَرَبِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ أَنَّهُ إِذَا لَقِيَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً قَالُوا : حَيَّاكَ اللَّه . وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ الْحَيَاةِ ؛ كَأَنَّهُ يَدْعُو لَهُ بِالْحَيَاةِ ، فَكَانَتِ التَّحِيَّةُ عِنْدَهُمْ عِبَارَةً عَنْ قَوْلِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ : حَيَّاكَ اللَّه ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ أُبْدِلَ ذَلِكَ بِالسَّلَامِ ، فَجَعَلُوا التَّحِيَّةَ اسْماً لِلسَّلَامِ .
قَالَ تَعَالَى : ]تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ[ [الْأَحْزَابِ : 44] .
وَإِنْ سَلَّمَتِ الْمَرْأَةُ الْأَجْنَبِيَّةُ عَلَيْهِ ؛ وَكَانَ يَخَافُ فِي رَدِّ الْجَوَابِ عَلَيْهَا تُهْمَةً أَوْ فِتْنَةً ؛ لَمْ يَجِبِ الرَّدُّ ، بَلِ الْأَوْلَى أَنْ لَا يَفْعَلَ ، حَيْثُ قُلْنَا إِنَّهُ لاَ يُسَلِّمُ ، فَلَوْ سَلَّمَ ؛ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهَا الرَّدُّ ، لِأَنَّهُ أَتَى بِفِعْلٍ مَنْهِيٍّ عَنْهُ فَكَانَ وَجُودُهُ كَعَدَمِهِ" .
التفسير الكبير" (10 / 161 و 166) .


"وَالسُّنَّةُ فِي السَّلَامِ وَالْجَوَابِ ؛ الْجَهْرُ ، وَلاَ تَكْفِي الْإِشَارَةُ بِالْإِصْبَعِ وَالْكَفِّ" .
"تفسير القرطبي" في الآية .

أما حديث :
"جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ! فَقَالَ : (وَعَلَيْكَ السَّلَامُ ورحمة الله) ، ثُمَّ جَاءَ آخَرُ ، فَقَالَ : السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ ! فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (وَعَلَيْكَ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ) ، ثُمَّ جَاءَ آخَرُ ، فَقَالَ : السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ ! فَقَالَ لَهُ : (وَعَلَيْكَ) . فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ : يَا نَبِيَّ اللَّهِ ! بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي ، أَتَاكَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ فَسَلَّمَا عَلَيْكَ فَرَدَدْتَ عَلَيْهِمَا أَكْثَرَ مِمَّا رَدَدْتَ عَلَيَّ ؟ فَقَالَ : (إِنَّكَ لَمْ تَدَعْ لَنَا شَيْئاً ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : ]وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها[ ؛ فَرَدَدْنَاهَا عَلَيْكَ)" .

هذا الحديث قال عنه المحدث الألباني في "السلسلة الضعيفة" (5433) : "منكر" .

قلتُ : اشتبه على البعض الزيادة على (وَبَرَكَاتُهُ) في السلام ، فمنعوها في الابتداء والرد مطلقاً ، وهذا وهمٌ ، فأنما المنع في الابتداء بها في السلام وقبول الزيادة بما ورد وصح في ردِّ السلام بها .

قال الألباني :
"وسبب الوهم : أنه جاء في بعض الآثار ما يشبه هذه الزيادة ، فاشتبه الأمر على الراوي ، ودخل عليه رواية في أخرى ، وهي ما رواه مالك في "الموطأ" (3/ 132) عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ ؛ أَنَّهُ قَالَ : كُنْتُ جَالِساً عِنْدَ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ ، فَقَالَ : السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ. ثُمَّ زَادَ شَيْئاً مَعَ ذلِكَ أَيْضاً ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - وَهُوَ يَوْمَئِذٍ قَدْ ذَهَبَ بَصَرُهُ - : مَنْ هذَا ؟
قَالُوا : هذَا الْيَمَانِيُّ الَّذِي يَغْشَاكَ ، فَعَرَّفُوهُ إِيَّاهُ .
قَالَ : فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : إِنَّ السَّلاَمَ انْتَهَى إِلَى الْبَرَكَةِ" .
قلت: وإسناده صحيح.

ونحوه : ما رواه مالك أيضاً (3/ 133-134) عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ :
"أَنَّ رَجُلاً سَلَّمَ عَلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ ، فَقَالَ : السَّلاَمُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ ، وَالْغَادِيَاتُ وَالرَّائِحَاتُ !
فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ : وَعَلَيْكَ أَلْفاً ! كَأَنَّهُ كَرِهَ ذلِكَ" .
قلت: وإسناده منقطع بين يحيى وابن عمر.
لكن أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي "الشُّعَبِ" مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بن بِأَبِيهِ قَالَ :
"جَاءَ رجل إِلَى بن عُمَرَ ، فَقَالَ : السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ وَمَغْفِرَتُهُ . فَقَالَ : حَسْبُكَ إِلَى (وَبَرَكَاتُهُ) انْتَهَى إِلَى (وَبَرَكَاتُهُ) .
وَمِنْ طَرِيقِ زُهْرَةَ بْنِ مَعْبَدٍ قَالَ : قَالَ :
"عُمَرُ انْتَهَى السَّلَامُ إِلَى (وَبَرَكَاتُهُ)" .
وَرِجَالُهُ ثِقَات ؛ كما قال الحافظ في "الفتح" (11 / 6 - السلفية) ، ولم يتعرض بذكر للإسناد إلى عبد الله بن بابيه – ويقال : ابن باباه - ، وهو ثقة .
ولا يخفى أن أثر ابن عمر هذا لو صح لا يشهد - كأثر ابن عباس - لحديث الترجمة ، وذلك لأمرين :
1- أن الحديث مرفوع ، والأثر موقوف .
2- أن الحديث في رد السلام ، والأثر في إلقائه .
ويؤيد ذلك : أنه ثبت عن ابن عمر وغيره من السلف ما يخالف هذا الحديث الضعيف : فروى البخاري في "الأدب المفرد" (ص 49 - دار الكتب العلمية) عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ سَالِمٍ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ :
"وَكَانَ ابْنُ عَمْرٍو إِذَا سُلِّمَ عَلَيْهِ فَرَدَّ زَادَ ، فَأَتَيْتُهُ وَهُوَ جَالِسٌ ، فَقُلْتُ : السَّلَامُ عَلَيْكُمْ ، فَقَالَ : السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ ، ثُمَّ أَتَيْتُهُ مَرَّةً أُخْرَى فَقُلْتُ : السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ ، قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ ، ثُمَّ أَتَيْتُهُ مَرَّةً أُخْرَى فَقُلْتُ : السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ ، فَقَالَ : السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ ، وَطَيِّبُ صَلَوَاتِهِ" .
قلت : ورجاله ثقات معروفون ؛ غير سالم هذا ، ولكن ذلك لا يمنع من الاستشهاد به ؛ كما لا يخفى على الخبراء بهذا العلم الشريف .

ثم روى في "الأدب المفرد" (ص 147،165) عن زيد بن ثابت: أنه كتب إلى معاوية - والظاهر أنه جواب كتاب من معاوية إليه -:
 "وَالسَّلَامُ عَلَيْكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ وَمَغْفِرَتُهُ" - زاد في الموضع الأول - : "وَطَيِّبُ صَلَوَاتِهِ" .
قلت : إسناده صحيح . وسكت عنه الحافظ وعن الذي قبله .
وذكر عن ابن دقيق العيد أنه نقل عن أبي الوليد بن رشد أنه يؤخذ من قوله تعالى : ]فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها[ الجواز في الزيادة على البركة إذا انتهى إليها المبتدئ .
ثم ذكر بعض الأحاديث المرفوعة الصريحة في ذلك ، ثم قال :
"وهذه الأحاديث الضعيفة إذا انضمت ؛ قوي ما اجتمعت عليه من مشروعية الزيادة على (وبركاته)".

ومن تلك الأحاديث الصريحة : ما ذكره من رواية البيهقي في "الشعب" - بسند ضعيف - من حديث زيد بن أرقم:
كنا إذا سلم علينا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ قلنا : وعليك السلام ورحمة الله وبركاته ومغفرته .
قلت : وفاته أنه أخرجه البخاري أيضاً في "التاريخ" ؛ كما كنت خرجته في "الصحيحة" (1449) ، وذهبت هناك إلى تجويد إسناده ؛ لأنه ليس في رجاله من ينظر فيه غير إبراهيم بن المختار الرازي ، وهو وإن كان مختلفاً فيه ؛ فقد اعتمدت على قول أبي حاتم فيه :
"صالح الحديث" ؛ مع تشدده المعروف في التوثيق ، لا سيما وقد وافقه على ذلك أبو داود ، وهو مقتضى توثيق ابن شاهين وابن حبان إياه ؛ إلا أن هذا قال :
"يتقى حديثه من رواية ابن حميد عنه" .
وهذا ليس من روايته عنه، بل من رواية محمد بن سعيد بن الأصبهاني عنه، كما ذكرته هناك .
وجملة القول : أن الحديث ضعيف الإسناد منكر المتن ؛ لمخالفته لظاهر آية رد التحية بأحسن منها ، والأحاديث والآثار الموافقة لها . والله تعالى أعلم .
والحافظ ذهب إلى شرعية الزيادة على ".. وبركاته" في رد السلام " .

انتهى من "الضعيفة" (11 / 719-726) .


قلتُ : والحديث الذي أشار إليه الشيخ الألباني في "الصحيحة" رقم (1449) :
عَنْ زيد بْن أرقم قَالَ :
"كنا إذا سلم النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علينا ، قلنا : وَعَلَيْكَ السَّلاَمُ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ وَمَغْفِرَتُهُ" .

قال الألباني : "أخرجه البخاري في " التاريخ الكبير " (1 / 1 / 330) ، وهذا إسناد جيد رجاله ثقات" .   "الصحيحة" (3 / 433) .



قلتُ : وهذا مما نختم به المسألة ، ونجزم بمشروعية زيادة : (وَمَغْفِرَتُهُ) في ردِّ السلام دون الابتداء بالسلام ؛ والآية تؤيده ؛ إذْ إن ابتداء السلام ينتهي عند (وَبَرَكَاتُهُ)  .
 والله أعلم .


تنبيه : جميع النقولات عن مراجع "التفاسير"المذكورة في البحث هي عند تفسيرهم للآية في الباب ، حيث أني لم أذكر أرقام المراجع تخفيفاً للقاري .


كتبه /
أبو فريحان جمال بن فريحان الحارثي .
9 / 11 / 1425هـ