عن الحسن -رحمه الله- أن عمر -رضي الله عنه- كان يقول:
"اللّهُمّ اجعل عملي صالحًا، واجعله لك خالصًا، ولا تجعل لأحد فيه
شيئًا". {رواه أحمد في "الزهد" (118)}



الثلاثاء، 12 يوليو 2016

ميزان عمل العباد هو الكتاب والسنة فيُعرض عمل المرء عليهما مهما يكن شخصه .


ميزان عمل العباد هو الكتاب والسنة فيُعرض عمل المرء عليهما مهما يكن شخصه .



رد على سؤال صاحب رابط هذه التغريدة :


https://twitter.com/UMTsoOYhM6q0shQ/status/752673469402415104



الحمد لله والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين .

أما بعد :

مقدمة :

قَالَ يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى الصَّدَفِيُّ : قُلْتُ لِلشَّافِعِيِّ :

"إِنَّا صَاحِبَنَا اللَّيْثَ ؛ كَانَ يَقُولُ : إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ يَمْشِي عَلَى الْمَاءِ فَلاَ تَغْترُوا بِهِ حَتَّى تَعْرِضُوا أَمْرَهُ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ؟ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ :

قَصَّرَ اللَّيْثُ رَحِمَهُ اللَّهُ ، بَلْ إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ يَمْشِي عَلَى الْمَاءِ ، وَيَطِيرُ فِي الْهَوَاءِ ؛ فَلَا تَغْترُوا بِهِ حَتَّى تَعْرِضُوا أَمْرَهُ عَلَى الْكِتَاب وَالسُّنَّةِ" .

"طبقات الشافعيين" (ص 32) ، و "تفسير ابن كثير" (1 / 75) [آخر تفسير آية البقرة : 34] ط. الجيل 1408ه .
و "البداية والنهاية" (13 / 230) ط. الكتبة العلمية. دون الرواية عن الليث .  كلها لابن كثير .

قال ابن كثير : "فَلَا بُدَّ مِنَ اخْتِبَارِ صَاحِبِ الْحَالِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَمَنْ وَافَقَ حَالُهُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ، فَهُوَ رَجُلٌ صَالِحٌ ، وَمَنْ لَمْ يُوَافِقْ ؛ فَلَيْسَ بِرَجُلٍ صَالِحٍ" . "البداية والنهاية" (13 / 230) .


فمن ادعى اليوم أنّ قيام بعضهم إماماً يصلي بالمسلمين من صلاة العشاء إلى الفجر هو أمر مشروع ولم يأت بمحدثة بل وأنّ الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم كانوا يقومون الليل ويستشهد بقوله تعالى : ]إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ[ ؛ فاستشهاده بالآية على ذلك ليس بصحيح ولا صواب ، وعليه بالدليل القاطع الذي يبين أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقوم الليل كله ؛ ولن يجد ، والأمر في المسالة هذه وغيرها ؛ جمع الأدلة وفعل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعمل أصحابه رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم من بعده ، فنبدأ باسم الله .


فنقول : قوله تعالى : ]إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ[ [المزمل : 20] .

هذه الآية نزلت بفرضية قيام الليل على النبي وأصحابه تخفيفاً بعد نزول صدر السورة قوله تعالى : ]يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا[ [المزمل : 2] .

قال الحافظ ابن جرير الطبري :
"وَنَزَلَتْ عَلَيْهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : ]يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا[ السُّورَةُ . قَالَ :
فَكُتِبَتْ عَلَيْهِمْ ، وَأُنْزِلَتْ بِمَنْزِلَةِ الْفَرِيضَةِ حَتَّى إِنْ كَانَ أَحَدُهُمْ لَيَرْبِطُ الْحَبْلَ فَيَتَعَلَّقُ بِهِ ؛ فَلَمَّا رَأَى اللَّهُ مَا يُكَلَّفُونَ مِمَّا يَبْتَغُونَ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ وَرِضَاهُ ، وَضَعَ ذَلِكَ عَنْهُمْ ، فَقَالَ : ]إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ[ إِلَى ]عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ[ ؛ فَرَدَّهُمْ إِلَى الْفَرِيضَةِ ، وَوَضَعَ عَنْهُمُ النَّافِلَةَ ، إِلَّا مَا تَطَوَّعُوا بِهِ ..

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : فَأَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ وَالْمُؤْمِنِينَ بِقِيَامِ اللَّيْلِ إِلَّا قَلِيلًا ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ، ثُمَّ خُفِّفَ عَنْهُمْ فَرَحِمَهُمْ ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدَ هَذَا : ]عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ[ إِلَى قَوْلِهِ: ]فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ[ فَوَسَّعَ اللَّهُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَلَمْ يُضَيِّقْ .
              

وَعَنْ عِكْرِمَةَ وَالْحَسَنِ ، قَالاَ فِي سُورَةِ الْمُزَّمِّلِ : ]قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا[ ؛ نَسَخَتْهَا الْآيَةُ الَّتِي فِيهَا : ]عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ[ .

قَالَ الْحَسَنُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ تَطَوُّعٌ بَعْدَ فَرِيضَةٍ.

قَالَ قَتَادَةُ : افْتَرَضَ اللَّهُ الْقِيَامَ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ ، فَقَامَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ حَوْلاً حَتَّى انْتَفَخَتْ أَقْدَامُهُمْ ، وَأَمْسَكَ اللَّهُ خَاتِمَتَهَا اثْنَيْ عَشَرَ شَهْراً فِي السَّمَاءِ ، ثُمَّ أَنْزَلَ التَّخْفِيفَ فِي آخِرِهَا ، فَصَارَ قِيَامُ اللَّيْلِ تَطَوُّعاً بَعْدَ فَرِيضَةٍ" .

"تفسير الطبري" الآثار : (35173، 35175، 35178، 35303)


وقال ابن كثير :
"قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ في قوله تعالى : ]سَبْحاً طَوِيلًا[ ؛ قَالَ :
لِحَوَائِجِكَ فَأَفْرِغْ لِدِينِكَ اللَّيْلَ ، قَالَ : وَهَذَا حِينَ كَانَتْ صَلَاةُ اللَّيْلِ فَرِيضَةً ، ثم إن الله تبارك وتعالى منّ على عباده ؛ فَخَفَّفَهَا ، وَوَضَعَهَا ، وَقَرَأَ ]قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا[ إلى آخر الآية ؛ ثم قرأ : ]إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ[- حتى بلغ- ]فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ اللَّيْلَ نِصْفَهُ أَوْ ثُلْثَهُ[ ثُمَّ جَاءَ أَمْرٌ أُوْسَعُ وَأَفْسَحُ وَضَعَ الْفَرِيضَةَ عنه وعن أمته فقال وقال تَعَالَى : ]وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً[ [الْإِسْرَاءِ: 79] ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ؛ كَمَا قَالَهُ" .

"تفسير ابن كثير" (8 / 278) تح. غنيم وصاحبيه .


بعد نقل كلام العلماء المفسرين من صدر هذه الأمة ؛ هل نوافق من يستشهد بهذه الآية على أن قيام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الليل وأصحابه رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم استقر على قيامهم الليل كله أو غالبه نافلة ؟

ناهيك أن يكون الاستدلال بها على أنهم كانوا يقومون الليل جماعة !
فتأمل !


ننتقل للأدلة من السُّنة في هدي النبي في قيام الليل باختصار :

الدليل الأول :
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ : (لاَ أَعْلَمُ نَبِيَّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ فِي لَيْلَةٍ ، وَلَا صَلَّى لَيْلَةً إِلَى الصُّبْحِ) .

رواه مسلم من حديث طويل (746) ، وأبو داود (1342) وغيرهما .

ولفظ أبي داود :
(لَمْ يَقُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةً يُتِمُّهَا إِلَى الصَّبَاحِ ، وَلَمْ يَقْرَأِ الْقُرْآنَ فِي لَيْلَةٍ قَطُّ) . وصححه الألباني .

هذا خبر الخبير رَضِيَ اللهُ عَنْهَابقيام رسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما شهد بذلك لها ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا ، فقال لسَعْدِ بْنِ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ عندما سَأَلَهُ عَنْ وِتْرِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

"أَلاَ أَدُلُّكَ عَلَى أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ بِوِتْرِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَالَ : مَنْ ؟ قَالَ : عَائِشَةُ ، فَأْتِهَا ، فَاسْأَلْهَا" .
رواه مسلم "المصدر السابق له" .

أما حديثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : (كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ العَشْرُ : شَدَّ مِئْزَرَهُ ، وَأَحْيَا لَيْلَهُ ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ) .      متفق عليه .

فليس فيه أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحيا الليل كله بالصلاة ، لا سيما أن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا هي الراوي لحديث نفي قيام ليلة كاملة ، وراوية هذا الحديث : (أَحْيَا لَيْلَهُ) ، فعُلم من ذلك وفُهِم أن إحياء الليل بالعبادة الشاملة وليس بالصلاة فقط ، والعبادة تشمل الصلاة وقراءة القرآن والذكر والتسبيح والتهليل والدعاء ..
وهذا توجيه أهل العلم لهذه اللفظة في الحديث .

فمن فهم أن إحياء الليل في هذا الحديث على أنه قام الليل كله يصلي ؛ فيحتاج إلى الرجوع لكلام أهل العلم في ذلك .


ويؤيد ما قلنا بأن مِن إحياء الليل : قراءة القرآن ومدارسته وذكر الله وليس قيام الليل بالصلاة حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ :

( .. وَكَانَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ ، فَيُدَارِسُهُ القُرْآنَ ..) .

رواه البخاري (6 ، 3048، 3361) . وجاء من حديث ابْنِ مَسْعُودٍ ، وأَبَي هُرَيْرَةَ ، وَفَاطِمَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم ؛ نحوه .

وهذا حديث صريح جداً أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يكن يصلي كل الليل وهذا شأنه في رمضان كله ، ولم يخص الليالي العشر الأخيرة بقيامٍ كامل لكل ليلة أو ليلة منها ، بل عُدّ قراءة القرآن وتدارسه من إحياء الليل . فتنبه .

الدليل الثاني :
عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ :
"صُمْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَمَضَانَ ، فَلَمْ يَقُمْ بِنَا شَيْئاً مِنَ الشَّهْرِ حَتَّى بَقِيَ سَبْعٌ ، فَقَامَ بِنَا حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ ، فَلَمَّا كَانَتِ السَّادِسَةُ لَمْ يَقُمْ بِنَا ، فَلَمَّا كَانَتِ الْخَامِسَةُ ؛ قَامَ بِنَا حَتَّى ذَهَبَ شَطْرُ اللَّيْلِ ، فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ! لَوْ نَفَّلْتَنَا قِيَامَ هَذِهِ اللَّيْلَةِ ، قَالَ : فَقَالَ :

( إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا صَلَّى مَعَ الْإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ حُسِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ ) .

قَالَ : فَلَمَّا كَانَتِ الرَّابِعَةُ ؛ لَمْ يَقُمْ ، فَلَمَّا كَانَتِ الثَّالِثَةُ ؛ جَمَعَ أَهْلَهُ وَنِسَاءَهُ وَالنَّاسَ ، فَقَامَ بِنَا حَتَّى خَشِينَا أَنْ يَفُوتَنَا الْفَلَاحُ . قَالَ : قُلْتُ : وَمَا الْفَلَاحُ ؟ قَالَ : السُّحُورُ ، ثُمَّ لَمْ يَقُمْ بِقِيَّةَ الشَّهْرِ" .

رواه أبو داود (1375) ، والترمذي (806) ، وابن ماجه (693) . وصححه الألباني .


فيلاحَظ أن قيامه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأصحابه رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم في الليالي الثلاث كان في أجزاءٍ من الليل مختلفة ، ولم يكن قام بهم ليلة كاملة ، فمن أين لمن حسّن واستحسن عمل الحوّاش بقيام ست ساعات أو سبع بعد صلاة العشاء – مع إن مجمل الساعات ما بين صلاة العشاء إلى الفجر ساعات - ؟!

ويلاحظ أن الحوّاش يقوم ليالي شهر رمضان كلها على هذا المنوال !

فكيف يليق بفقيه أن يبرر مخالفة الحواش لسنة المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقيامه ليالي رمضان ؛ بلفظة عامة في حديث : (إِذَا دَخَلَ العَشْرُ ؛ أَحْيَا لَيْلَهُ) ويترك الأحاديث الصريح النافية لقيام ليلة كاملة منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟!

تنبيه :
الليلة التي تخوفوا الصحابة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم أن يفوتهم السحور ؛ ليس في الحديث أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بدأ بهم القيام مِن بعد صلاة العِشاء . فتأمل ولا تُعير عقلك !

وحديث أبي ذرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ موافق لأحاديثٍ عدة لعائشة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا تحكي قيام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غير رمضان منها ؛ قَالَتْ :

( مِنْ كُلِّ اللَّيْلِ قَدْ أَوْتَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ ، وَأَوْسَطِهِ ، وَآخِرِهِ ، فَانْتَهَى وِتْرُهُ إِلَى السَّحَرِ ) .          رواه مسلم (745) .

فالحديثان وغيرهما  كثير ؛ تدُّل على أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يصل الليل كلّه حتى في الليالي العشر الأخيرة من رمضان التي جاء لفظ الحديث السابق : (إِذَا دَخَلَ العَشْرُ ؛ أَحْيَا لَيْلَهُ) ، فعُلِم أن إحياء الليل لا يلزم منه قيام الليل كله بالصلاة .

الدليل الثالث :
عَنْ صَفِيَّةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَضِيَ اللهُ عَنْهَا - :
(أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا جَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزُورُهُ فِي اعْتِكَافِهِ فِي المَسْجِدِ فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ ، فَتَحَدَّثَتْ عِنْدَهُ سَاعَةً ، ثُمَّ قَامَتْ تَنْقَلِبُ ، فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهَا يَقْلِبُهَا) .          متفق عليه .

وفي رواية للبخاري (1933) من حديث صَفِيَّةَ وَرَضِيَ اللهُ عَنْهَا أيضاً :

(كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي المَسْجِدِ وَعِنْدَهُ أَزْوَاجُهُ فَرُحْنَ،  فَقَالَ لِصَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ لاَ تَعْجَلِي حَتَّى أَنْصَرِفَ مَعَكِ، وَكَانَ بَيْتُهَا فِي دَارِ أُسَامَةَ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهَا) .

وفي هذا دليل صريح أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما كان يصلي كل الليل حتى في العشر الأواخر ، بل كان أزواجه يزرنه ويتحدثن معه . فهل من مدّكر ؟

فهل الحوّاش أعبد من المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأهدى سبيلا ، أم سنّة المصطفى أهدى وأفضل وألزم للمسلمين ؟!

فكل خير في اتباع من سلف ؛ وكل شر في ابتداع من خلف !


الدليل الرابع :

الأول مِن فعل الصحابة بعده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

فَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدٍ القَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ :
"خَرَجْتُ مَعَ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، لَيْلَةً فِي رَمَضَانَ إِلَى المَسْجِدِ ، فَإِذَا النَّاسُ أَوْزَاعٌ مُتَفَرِّقُونَ ، يُصَلِّي الرَّجُلُ لِنَفْسِهِ، وَيُصَلِّي الرَّجُلُ فَيُصَلِّي بِصَلاَتِهِ الرَّهْطُ، فَقَالَ عُمَرُ :

"إِنِّي أَرَى لَوْ جَمَعْتُ هَؤُلاَءِ عَلَى قَارِئٍ وَاحِدٍ ؛ لَكَانَ أَمْثَلَ" . ثُمَّ عَزَمَ ، فَجَمَعَهُمْ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ، ثُمَّ خَرَجْتُ مَعَهُ لَيْلَةً أُخْرَى ، وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلاَةِ قَارِئِهِمْ ، قَالَ عُمَرُ :
"نِعْمَ البِدْعَةُ هَذِهِ ، وَالَّتِي يَنَامُونَ عَنْهَا أَفْضَلُ مِنَ الَّتِي يَقُومُونَ" . يُرِيدُ آخِرَ اللَّيْلِ ، وَكَانَ النَّاسُ يَقُومُونَ أَوَّلَهُ" .             رواه البخاري (1906) .


ولا شك أن هذا الأثر صريح وبيِّنٌ واضح بأن الصحابة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم صلوا مع أُبَيٍّ أول الليل ؛ ولم يصلوا الليل كله ، وشيءٌ آخر : أن عمر ومن كان معه رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم في الليلتين ؛ لم يصلوا أول الليل !

فهل أحد اليوم يستطيع أن يقول نحن أتقى وأجلد في العبادة من الصحابة ؟

اللهم إلا أن يكون سفيهاً !


الدليل الخامس :

الثاني مِن فعل الصحابة بعده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

فِعْلُ أبي هريرة هو وزوجه وخامه رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم ؛ صلاة قيام الليل أثلاثاً ، فعَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيَّ قَالَ :

"تَضَيَّفْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ سَبْعاً ، فَكَانَ هُوَ وَامْرَأَتُهُ وَخَادِمُهُ ، يَعْتَقِبُونَ اللَّيْلَ أَثْلَاثاً ، يُصَلِّي هَذَا ، ثُمَّ يُوقِظُ هَذَا ، وَيُصَلِّي هَذَا ، ثُمَّ يُوقِظُ هَذَا" .

رواه أحمد (2 / 353) ، والبخاري (5125) وغيرهما . وصححه الألباني .



بعد هذا البيان والإيضاح يأتي صاحب شبهة ويرمي بشبهته ويظن أنه أتى برأس كليب .

يقول : تقولون : أن عمر أمر أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ يصلي بالناس أول الليل ، وقال في الليلة بعدها : "وَالَّتِي يَنَامُونَ عَنْهَا أَفْضَلُ" ، وهو أثر صحيح ؟

فما تقولون فيما رواه مالك بسنده عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ ؛ أَنَّهُ قَالَ :

" أَمَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ وَتَمِيماً الدَّيْرِيَّ أَنْ يَقُومَا لِلنَّاسِ بِإِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً .
قَالَ : وَقَدْ كَانَ الْقَارِئُ يَقْرَأُ بِالْمِئِينَ ، حَتَّى كُنَّا نَعْتَمِدُ عَلَى الْعِصِيِّ مِنْ طُولِ الْقِيَامِ ، وَمَا كُنَّا نَنْصَرِفُ إِلاَّ فِي فُرُوعِ الْفَجْرِ" .

قلت : ورواه مالك في الموطأِ تح. عبد الباقي (1 / 114) وفي رواية الزهري (1 / 110) ، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1 / 293) ، والبغوي في "شرح السنة" (4 / 120) ، والبيهقي في "السنن والآثار" (4 / 42 / 5413) . وصححه الألباني في "صلاة التراويح" ، وفي "قيام رمضان" ، وقال : "أصح إسناد" .

عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ – ابن مُحَمَّدِ بْنِ عَمرو بْنِ حَزْمٍ - ؛ أَنَّهُ قَالَ : سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ :
"كُنَّا نَنْصَرِفُ فِي رَمَضَانَ ، فَنَسْتَعْجِلُ الْخَدَمَ بِالطَّعَامِ ، مَخَافَةَ الْفَجْرِ" .
رَوَاهُ مَالك في الموطأِ (1 / 115) تح. عبد الباقي ، وابن نصر في "مختصر قيام الليل" (ص 223) .

فظاهر هذين الأثرين يخالف أثر عمر وأمره أبي الصلاة بالناس أول الليل ، مما يعني أن مسألة قيام الليلة كاملة كان من فعل الصحابة ؟!

فنقول له : ليس لنا تفسير مع تفسير أئمة الهدى والدين ؛ فقد كُفينا ، وأنعم بهم وأكرم ، فقد بين هذا الَّلبس الحافظ أبو عمر ابن عبد البر ، فقال :

"وَفِيهِ : دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ قِيَامَهُمْ كَانَ أَوَّلَ اللَّيْلِ ، ثُمَّ جَعَلَهُ عُمَرُ فِي آخِرِ اللَّيْلِ ، فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ فِي مَعْنَى مَا ذَكَرَ مَالِكٌ إِلَى زَمَانِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ ، قَالَ : "كُنَّا نَنْصَرِفُ فِي رَمَضَانَ فَنَسْتَعْجِلُ الْخَدَمَ بِالطَّعَامِ مَخَافَةَ الْفَجْرِ" .

"الاستذكار" (5 / 151) .


فعُلِم أن القيام المذكور في الأثرين لم يكن الابتداء به من أول الليل .

فبذلك تجلّ الإشكال ودُحِرت الشبهة .

فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِي كُلِّ زَمَانِ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ ، بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ، يَدْعُونَ مَنْ ضَلَّ إِلَى الْهُدَى ، وَيَصْبِرُونَ مِنْهُمْ عَلَى الْأَذَى ، يُحْيُونَ بِكِتَابِ اللَّهِ الْمَوْتَى، وَيُبَصِّرُونَ بِنُورِ اللَّهِ أَهْلَ الْعَمَى ، فَكَمْ مِنْ قَتِيلٍ لِإِبْلِيسَ قَدْ أَحْيَوْهُ ، وَكَمْ مِنْ ضَالٍّ تَائِهٍ هَدَوْهُ ، فَمَا أَحْسَنَ أَثَرَهُمْ عَلَى النَّاسِ ، وَمَا أَقْبَحَ أَثَرَ النَّاسِ عَلَيْهِمْ ، يَنْفُونَ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ ، وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ ، وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ الَّذِينَ عَقَدُوا أَلْوِيَةَ الْبِدْعَةِ ، وَأَطْلَقُوا عِنَانَ الْفِتْنَةِ ، فَهُمْ مُخْتَلِفُونَ فِي الْكِتَابِ ، مُخَالِفُونَ لِلْكِتَابِ ، مُجْمِعُونَ عَلَى مُخَالَفَةِ الْكِتَابِ ، يَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ وَفِي اللَّهِ وَفِي كِتَابِ .

هذا وبالله التوفيق .


كتبه /
أبو فريحان جمال بن فريحان الحارثي .
7 / شوال / 1437هـ