عن الحسن -رحمه الله- أن عمر -رضي الله عنه- كان يقول:
"اللّهُمّ اجعل عملي صالحًا، واجعله لك خالصًا، ولا تجعل لأحد فيه
شيئًا". {رواه أحمد في "الزهد" (118)}



الأحد، 28 أغسطس 2016

رسالة إلى كل من يُكفِّر حكّام المسلمين

 
رسالة إلى كل من يُكفِّر حكّام المسلمين
 
سبب نزول ) وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ ( الآية ، وأنها في الكفار ، وأن الكفرَ
العملي غير الاعتقادي .
 
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْزَلَ : ]وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [وَ ]أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [وَ ]أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ[ .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : أَنْزَلَهَا اللَّهُ فِي الطَّائِفَتَيْنِ مِنَ الْيَهُودِ ، وَكَانَتْ إِحْدَاهُمَا قَدْ قَهَرَتِ الأُخْرَى فِي الْجَاهِلِيَّةِ حَتَّى ارْتَضَوْا وَاصْطَلَحُوا عَلَى أَنَّ كُلَّ قَتِيلٍ قَتَلَتْهُ "الْعَزِيزَةُ" مِنَ "الذَّلِيلَةِ" فَدِيَتُهُ خَمْسُونَ وَسْقاً ، وَكُلَّ قَتِيلٍ قَتَلَتْهُ "الذَّلِيلَةُ" مِنَ "الْعَزِيزَةِ" فَدِيَتُهُ مِائَةُ وَسْقٍ ، فَكَانُوا عَلَى ذَلِكَ ، حَتَّى قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ ، فَذَلَّتِ الطَّائِفَتَانِ كِلْتَاهُمَا لِمَقْدَمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَيَوْمَئِذٍ لَمْ يَظْهَرْ وَلَمْ يُوطِئْهُمَا عَلَيْهِ - لفظ الطبراني : "وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ لَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يُوطِئْهُمَا وَهُوَ الصُّلْحُ"- وَهُوَ فِي الصُّلْحِ ، فَقَتَلَتِ "الذَّلِيلَةُ" مِنَ "الْعَزِيزَةِ" قَتِيلاً ، فَأَرْسَلَتِ "الْعَزِيزَةُ" إِلَى "الذَّلِيلَةِ" أَنِ ابْعَثُوا إِلَيْنَا بِمَائَةِ وَسْقٍ ، فَقَالَتِ "الذَّلِيلَةُ" : وَهَلْ كَانَ هَذَا فِي حَيَّيْنِ قَطُّ دِينُهُمَا وَاحِدٌ ، وَنَسَبُهُمَا وَاحِدٌ وَبَلَدُهُمَا وَاحِدٌ ، دِيَةُ بَعْضِهِمْ نِصْفُ دِيَةِ بَعْضٍ ؟! إِنَّا إِنَّمَا أَعْطَيْنَاكُمْ هَذَا ضَيْماً مِنْكُمْ لَنَا ، وَفَرَقاً([1]) مِنْكُمْ ، فَأَمَّا إِذْ قَدِمَ مُحَمَّدٌ فَلاَ نُعْطِيكُمْ ذَلِكَ ، فَكَادَتِ الْحَرْبُ تَهِيجُ بَيْنَهُمَا ، ثُمَّ ارْتَضَوْا عَلَى أَنْ يَجْعَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمْ . ثُمَّ ذَكَرَتِ "الْعَزِيزَةُ" ، فَقَالَتْ : وَاللَّهِ مَا مُحَمَّدٌ بِمُعْطِيكُمْ مِنْهُمْ ضِعْفَ مَا يُعْطِيهِمْ مِنْكُمْ ، وَلَقَدْ صَدَقُوا ، مَا أَعْطَوْنَا هَذَا إِلاَّ ضَيْماً مِنَّا ، وَقَهْراً لَهُمْ ، فَدُسُّوا إِلَى مُحَمَّدٍ مَنْ يَخْبُرُ لَكُمْ رَأْيَهُ ؛ إِنْ أَعْطَاكُمْ مَا تُرِيدُونَ حَكَّمْتُمُوهُ ، وَإِنْ لَمْ يُعْطِكُمْ حَذِرْتُمْ ؛ فَلَمْ تُحَكِّمُوهُ ، فَدَسُّوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَاساً مِنَ الْمُنَافِقِينَ لِيَخْبُرُوا لَهُمْ رَأْىَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَلَمَّا جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ بِأَمْرِهِمْ كُلِّهِ وَمَا أَرَادُوا ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : ]يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا[ إِلَى قَوْلِهِ ]وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ[ ، ثُمَّ قَالَ : فِيهِمَا وَاللَّهِ نَزَلَتْ ، وَإِيَّاهُمَا عَنَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ) .
 "الصحيحة" (2552) .
 
{ قَالَ شيخُنا الألباني في "الصحيحة" (6/الأول/111-116) } :
    ( فائدة هامـة ) :
       إذا علمت أن الآيات الثلاث : ]وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ[ ، ]فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ[ ، ]فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ[ نزلت في اليهود وقولهم في حكمه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (إِنْ أَعْطَاكُمْ مَا تُرِيدُونَ ؛ حَكَّمْتُمُوهُ ، وَإِنْ لَمْ يُعْطِكُمْ ؛ حَذِرْتُمْ ؛ فَلَمْ تُحَكِّمُوهُ) ، وقد أشار القرآن إلى قولهم هذا قبل هذه الآيات فقال : ]يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا[ ، إذا عرفت هذا ، فلا يجوز حمل هذه الآيات على بعض الحكام المسلمين وقضاتهم الذين يحكُمون بغير ما أنزل الله من القوانين الأرضية ، أقول : لا يجوز تكفيرهم بذلك ، وإخراجهم من الملة ، إذا كانوا مؤمنين بالله ورسوله ، وإن كانوا مجرمين بحكمهم بغير ما أنزل الله ، لا يجوز ذلك ، لأنهم وإن كانوا كاليهود من جهة حكمهم المذكور ، فهم مخالفون لهم من جهة أخرى ، ألا وهي إيمانهم وتصديقهم بما أنزل الله ، بخلاف اليهود الكفار ، فإنهم كانوا جاحدين له كما يدل عليه قولهم المتقدم : (. . . وَإِنْ لَمْ يُعْطِكُمْ حَذِرْتُمْ ؛ فَلَمْ تُحَكِّمُوهُ) ، بالإضافة إلى أنهم ليسوا مسلمين أصلاً ، وسرّ هذا أن الكفر قسمان :
اعتقادي وعملي . فالاعتقادي مقرّه القلب . والعملي محلّه الجوارح .
      فمن كان عمله كفراً لمخالفته للشرع ، وكان مطابقاً لما وقر في قلبه من الكفر به ، فهو الكفر الاعتقادي ، وهو الكفر الذي لا يغفره الله ، ويخلد صاحبه في النار أبداً . وأما إذا كان مخالفاً لما وقر في قلبه ، فهو مؤمن بحكم ربه ، ولكنه يخالفه بعمله ، فكفره كفرٌ عملي فقط ، وليس كفراً اعتقادياً ، فهو تحت مشيئة الله تعالى إن شاء عذّبه ، وإن شاء غفر له ، وعلى هذا النوع من الكفر تُحمَلُ الأحاديثُ التي فيها إطلاق الكفر على من فعل شيئاً من المعاصي من المسلمين، ولا بأس من ذكر بعضها :
1- (اثْنَتَانِ فِي النَّاسِ هُمَا بِهِمْ كُفْرٌ ، الطَّعْنُ فِي النَّسَبِ ، وَالنِّيَاحَةُ عَلَى الْمَيِّتِ) .
2- (الْجِدَالُ فِي الْقُرْآنِ كُفْرٌ) .
3- (سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ) .
4- (كُفْرٌ بِاللَّهِ تَبَرُّؤٌ مِنْ نَسَبٍ وَإِنْ دَقَّ) .
5- (التَّحَدُّثُ بِنِعْمَةِ اللَّهِ شُكْرٌ وَتَرْكُهَا كُفْرٌ) .
6- (لا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ) .
     إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة التي لا مجال الآن لاستقصائها . فمن قام من المسلمين بشيء من هذه المعاصي ، فكفرُه كفر عملي ، أي إنه يعمل عمل الكفار ، إلا أن يستحلّها ، ولا يرى كونَها معصية فهو حينئذ كافرٌ حلال الدم ، لأنه شارك الكفار في عقيدتهم أيضاً ، والحكم بغير ما أنزل الله ، لا يخرج عن هذه القاعدة أبداً ، وقد جاء عن السلف ما يدعمها ، وهو قولهم في تفسير الآية : "كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ" ، صح ذلك عن ترجمان القرآن عبد الله بن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، ثم تلقاه عنه بعض التابعين وغيرهم ، ولا بد من ذكر ما تيسر لي عنهم لعل في ذلك إنارة للسبيل أمام من ضلّ اليوم في هذه المسألة الخطيرة ، ونحا نحو الخوارج الذين يكفِّرون المسلمين بارتكابهم المعاصي ، وإن كانوا يصلون ويصومون !
1- روى ابن جرير الطبري ( 10/ 355/ 12053 ) {(6 / 596/ 12058)} بإسناد صحيح عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ :
]وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ[ قَالَ : "هِيَ بِهِ كُفْرٌ , وَلَيْسَ كُفْراً بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ" .
    2- وفي رواية عنه في هذه الآية : "إِنَّهُ لَيْسَ بِالْكُفْرِ الَّذِي يَذْهَبُونَ إِلَيْهِ ، إِنَّهُ لَيْسَ كُفْراً يَنْقِلُ عَنِ الْمِلَّةِ ، كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ" .
(يَذْهَبُونَ إِلَيْهِ) ؛ كأنه يشير إلى الخوارج الذي خرجوا على علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
أخرجه الحاكم (2 / 313 ) ، وقال : "صحيح الإسناد" . ووافقه الذهبي ، وحقهما أن يقولا : على شرط الشيخين . فإن إسناده كذلك . 
       ثم رأيت الحافظ ابن كثير نقل في "تفسيره" (6 /163) {(6 /112) تح. غنيم وصاحبيه} عن الحاكم أنه قال :
     "صحيح على شرط الشيخين" ، فالظاهر أن في نسخة "المستدرك" المطبوعة سقطاً ، وعزاه ابن كثير لابن أبي حاتم أيضاً ببعض اختصار .
    3- وفي أخرى عنه من رواية عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ , عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : "مَنْ جَحَدَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَقَدْ كَفَرَ , وَمَنْ أَقَرَّ بِهِ وَلَمْ يَحْكُمْ فَهُوَ ظَالِمٌ فَاسِقٌ" . أخرجه ابن جرير (12063) {(12068)} .
قلت : وابن أبي طلحة لم يسمع من ابن عباس ، لكنّه جيد في الشواهد .
    4- ثم روى (12047 - 12051) {(12052 - 12056)} عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ  قَوْلُهُ : (وذكر الآيات الثلاث) : "كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ , وَفِسْقٌ دُونَ فِسْقٍ , وَظُلْمٌ دُونَ ظُلْمٌ" . وإسناده صحيح .
    5- ثم روى (12052) {(12057)} عَنْ سَعِيدٍ الْمَكِّيِّ , عَنْ
طَاوُسٍ (وذكر الآية) ، قَالَ : "لَيْسَ بِكُفْرٍ يَنْقُلُ عَنِ الْمِلَّةِ" .
وإسناده صحيح .
       6- وروى (12025 و 12026) {(12030 -12031)} من طريقين عَنْ عِمْرَانَ بْنَ حُدَيْرٍ قَالَ : أَتَى أَبَا مِجْلَزِ - [من كبار ثقات التابعين واسمه لاحق بن حميد البصري] - نَاسٌ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ سَدُوسٍ , "وفِي الطَّريقِ الآخر : نَفَرٌ مِنَ الْإِبَاضِيَّةِ" - [طائفة من الخوارج] - ، فَقَالُوا : أَرَأَيْتَ قَوْلَ اللَّهِ : ]وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ[ -{المائدة: 44}- أَحَقٌّ هُوَ ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالُوا : ]وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ[ -{المائدة: 45}- أَحَقٌّ هُوَ ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالُوا : ]وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ[ -{المائدة: 47}- أَحَقٌّ هُوَ ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالَ : فَقَالُوا : يَا أَبَا مِجْلَزٍ ! فَيَحْكُمُ هَؤُلَاءِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ ؟ قَالَ : هُوَ دِينُهُمُ الَّذِي يَدِينُونَ بِهِ , وَبِهِ يَقُولُونَ , وَإِلَيْهِ يَدْعُونَ - [يعني الأمراء] - , فَإِنْ هُمْ تَرَكُوا شَيْئاً مِنْهُ عَرَفُوا أَنَّهُمْ قَدْ أَصَابُوا ذَنْباً . فَقَالُوا : لَا وَاللَّهِ , وَلَكِنَّكَ تَفْرَقُ .
قَالَ : أَنْتُمْ أَوْلَى بِهَذَا مِنِّي ! لَا أَرَى ، وَإِنَّكُمْ تَرَوْنَ هَذَا وَلَا تَحَرَّجُونَ , وَلَكِنَّهَا أُنْزِلَتْ فِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَأَهْلِ الشِّرْكِ , أَوْ نَحْواً مِنْ هَذَا" . وإسناده صحيح .
     وقد اختلف العلماء في تفسير الكفر في الآية الأولى على خمسة أقوال ساقها ابن جرير (10 /346-357) {(6 /592-597)} بأسانيده إلى قائليها ، ثم ختم ذلك بقوله (10 - 358) {(6 /597) بعد آخر أثر (12068) في المسألة} :
       "وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ عِنْدِي بِالصَّوَابِ , قَوْلُ مَنْ قَالَ : نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ فِي كُفَّارِ أَهْلِ الْكِتَابِ , لِأَنَّ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا مِنَ الْآيَاتِ فَفِيهِمْ نَزَلَتْ ، وَهُمُ الْمَعْنِيُّونَ بِهَا , وَهَذِهِ الْآيَاتُ سِيَاقُ الْخَبَرِ عَنْهُمْ ، , فَكَوْنُهَا خَبَراً عَنْهُمْ أَوْلَى .
      فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ قَدْ عَمَّ بِالْخَبَرِ بِذَلِكَ عَنْ جَمِيعِ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ , فَكَيْفَ جَعَلْتَهُ خَاصّاً ؟
      قِيلَ : إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَمَّمَ بِالْخَبَرِ بِذَلِكَ عَنْ قَوْمٍ كَانُوا بِحُكْمِ اللَّهِ الَّذِي حَكَمَ بِهِ فِي كِتَابِهِ جَاحِدِينَ ، فَأَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ بِتَرْكِهِمُ الْحُكْمَ - عَلَى سَبِيلِ مَا تَرَكُوهُ – كَافِرُونَ . وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي كُلِّ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ جَاحِداً بِهِ ؛ هُوَ بِاللَّهِ كَافِرٌ , كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ؛ لِأَنَّهُ بِجُحُودِهِ حُكْمَ اللَّهُ بَعْدَ عِلْمِهِ أَنَّهُ أَنْزَلَهُ فِي كِتَابِهِ ؛ نَظِيرَ جُحُودِهِ نُبُوَّةَ نَبِيِّهِ بَعْدَ عِلْمِهِ أَنَّهُ نَبِيُّ" .
     وجملة القول : أن الآية نزلت في اليهود الجاحدين لِما أنزل الله ، فمن شاركهم في الجحد ؛ فهو كافر كفراً اعتقادياً ، ومن لم يشاركهم في الجحد ؛ فكفره عملي لأنه عمل عملهم ، فهو بذلك مجرم آثم ، ولكن لا يخرج بذلك عن الملة كما تقدم عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وقد شرح هذا وزاده بياناً الإمام الحافظ أبو عبيد القاسم بن سلام في "كتاب الإيمان" "باب الخروج من الإيمان بالمعـاصي" (ص 84-97 بتحقيقي) ، فليراجعه من شاء المزيد من التحقيق .
       وبعد كتابه ما سبق ، رأيت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول في تفسير آية الحكم المتقدمة في "مجموع الفتاوى" (3 /268) :
"أَيْ هُوَ الْمُسْتَحِلُّ لِلْحُكْمِ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ" .
    ثم ذكر (7 /254) أن الإمام أحمد سئل عن الكفر المذكور فيها ؟ فَقَالَ :
"كُفْرٌ لَا يَنْقُلُ عَنْ الْمِلَّةِ([2]) ، مِثْلَ الْإِيمَانِ بَعْضُهُ دُونَ بَعْضٍ ، فَكَذَلِكَ الْكُفْرُ حَتَّى يَجِيءَ مِنْ ذَلِكَ أَمْرٌ لَا يُخْتَلَفُ فِيهِ" .
     وقال (7 / 312 ) :
       "وَإِذَا كَانَ مِنْ قَوْلِ السَّلَفِ أنَّ الْإِنْسَانَ يَكُونُ فِيهِ إيمَانٌ وَنِفَاقٌ ، فَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِمْ أنَّهُ يَكُونُ فِيهِ إيمَانٌ وَكُفْرٌ ؛ لَيْسَ هُوَ الْكُفْرُ الَّذِي يَنْقُلُ عَنْ الْمِلَّةِ ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَصْحَابُهُ فِي قَوْله تَعَالَى ]وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ[ ، قَالُوا : كُفْراً لَا يَنْقُلُ عَنْ الْمِلَّةِ . وَقَدْ اتَّبَعَهُمْ عَلَى ذَلِكَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ" .
 
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( قوله: ]وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ[ ، ]وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ[ ، ]وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ[ ، قَالَ : هِيَ فِي الْكُفَّارِ كُلُّهَا ) .
"الصحيحة" (2704) .

 { قَالَ شيخُنا الألباني في "الصحيحة" (6 /الأول/457-458) } :
قلتُ : والحديث دليل صريح في أن المقصود بهذه الآيات الثلاث ؛ الكفار من اليهود والنصارى ؛ وأمثالهم الذين ينكرون الشريعة الإسلامية وأحكامها ، ويلحق بهم كل من شاركهم في ذلك ؛ ولو كان يتظاهر بالإسلام ، حتى ولو أنكر حكماً واحداً منها .
ولكن مما ينبغي التنبه له ، أنه ليس كذلك من لا يحكم بشيء منها مع عدم إنكاره ذلك ، فلا يجوز الحكم على مثله بالكفر وخروجه عن الملة لأنه مؤمن ، غاية ما في الأمر أن يكون كفره كفراً عملياً .
وهذه نقطة هامة في هذه المسألة يغفل عنها كثير من الشباب المتحمس لتحكيم الإسلام ، ولذلك فهم في كثير من الأحيان يقومون بالخروج على الحكام الذين لا يحكمون بالإسلام ، فتقع فتن كثيرة ، وسفك دماء بريئة لمجرد الحماس الذي لم تُعَد له عدته ، والواجب عندي تصفية الإسلام مما ليس منه كالعقائد الباطلة ، والأحكام العاطلة ، والآراء الكاسدة المخالفة للسنة ، وتربية الجيل على هذا الإسلام المصفى . والله المستعان .
وقد مضى الكلام على هذه المسألة الهامة بشيء من التفصيل المفيد إن شاء الله تعالى تحت الحديث المتقدم ( 2552 ) .

انتهى الجمع من "الصحيحة" .
 

اختاره ونقله /
أبو فريحان جمال بن فريحان الحارثي.
18 / 10 / 1424هـ
 


[1] قَولُه في الحديث : ( فَرَقاً ) : "الفَرَق بِالتَّحْرِيكِ : الخَوْف والفَزَع . يُقَالُ : فَرِقَ يَفْرَقُ فَرَقاً . وَمِنْهُ حَدِيثُ أَبِي بَكْرٍ : "أبِاللهِ تُفَرِّقُنِي ؟" ؛ أَيْ : تُخَوِّفُني" . "النهاية" (3/438) .

[2] في الأصل في "الصحيحة" : "الإيمان" مكان "الْمِلَّة" والتصويب من "الفتاوى" .