الرّد
على أهل البدع
مِنَ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، بل هو من الجهاد.
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
( فَلَعَمْرِي ؛ لَأَنْ تَكَلَّمَ
بِمَعْرُوفٍ ، وَتَنْهَى عَنْ مُنْكَرٍ ؛ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَسْكُتَ ) .
"الصحيحة" (2945) .
قلتُ :
ومِنَ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ الرد على أهل البدع بالدليل والبرهان ،
بل هو من الجهاد في سبيل الله .
قال ابن تيمية رحمه الله
: "الرّادّ على أهل البدع ؛ مجاهد .
حتى كان يحيى بن يحيى يقول : الذّبّ عن
السّنة ؛ أفضل من الجهاد" .
"الرد على الأخنائي" (ص 5) .
وقال العلامة ابن القيم :
"الْجِهَاد نَوْعَانِ : .. ، وَالثَّانِي
:
الْجِهَاد بِالْحجَّةِ وَالْبَيَان ، وَهَذَا
جِهَاد الْخَاصَّة من اتِّبَاع الرُّسُل ، وَهُوَ جِهَاد الائمة ، وَهُوَ افضل
الجهادين ؛ لعظم منفعَته ، وَشدَّة مُؤْنَته وَكَثْرَة اعدائه" .
"مفتاح دار السعادة" (1 / 70)
.
وقد أجاب شيخ الإسلام ابن تيمية
جواباً شافياً على من تمنّى من بعض من ترجم له - رحمه الله - أن لو جعل جهده في
تفسير القرآن العظيم ، وشرح السنة المطهرة ؛ بدلاً من الإكثار من الردّ على أهل
البدع والأهواء ، وعلى من تساءل عن سبب إكثاره من التأليف في الأصول ، وقلّة
تآليفه في العلوم الأخرى ، فقال رحمه الله :
"فإني
رأيت أهل البدع والضلالات والأهواء ؛ كالمتفلسفة، والباطنية، والملاحدة ،
والقائلين بوحدة الوجود ، والدهرية ، والقدرية ، والنصيرية ، والجهمية ، والحلولية
، والمعطلة ، والمجسمة ، والمشبهة ، والراوندية ، والكلابية ، والسليمية [السالمية]
، وغيرهم من أهل البدع ؛ قد تجاذبوا فيها بأزمة الضلال ، وبان لي أنّ كثيراً منهم
إنما قصد إبطال الشريعة المقدسة المحمدية الظاهرة العلية على كلّ دين ، وأن
جمهورهم أوقع الناس في التشكيك في أصول دينهم .
ولهذا
قلّ أن سمعت أو رأيت معرضاً عن الكتاب والسنة ، مقبلاً على مقالاتهم إلا وتزندق ،
أو صار على غير يقين في دينه واعتقاده .
فلما
رأيت الأمر على ذلك ؛ بان لي أنه يجب على كلّ من يقدر على دفع شبهتهم وأباطيلهم ،
وقطع حجتهم وأضاليلهم ؛ أن يبذل جهده ليكشف رذائلهم ، ويزيّف دلائلهم ؛ ذباً عن
الملة الحنيفية ، والسنة الصحيحة الجليّة" .
"النبوات"
(1 / 70) مقدمة المحقق : الطويان .
وقال
ابن تيمية أيضاً :
"وَمِثْلُ
أَئِمَّةِ الْبِدَعِ مِنْ أَهْلِ الْمَقَالَاتِ الْمُخَالِفَةِ لِلْكِتَابِ
وَالسُّنَّةِ أَوْ الْعِبَادَاتِ الْمُخَالِفَةِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛
فَإِنَّ بَيَانَ حَالِهِمْ وَتَحْذِيرَ الْأُمَّةِ مِنْهُمْ وَاجِبٌ بِاتِّفَاقِ
الْمُسْلِمِينَ .
وقال
رحمه الله : قِيلَ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ : الرَّجُلُ يَصُومُ وَيُصَلِّي
وَيَعْتَكِفُ أَحَبُّ إلَيْك أَوْ يَتَكَلَّمُ فِي أَهْلِ الْبِدَعِ ؟ فَقَالَ : "إذَا
قَامَ وَصَلَّى وَاعْتَكَفَ ؛ فَإِنَّمَا هُوَ لِنَفْسِهِ ، وَإِذَا تَكَلَّمَ فِي
أَهْلِ الْبِدَعِ ؛ فَإِنَّمَا هُوَ لِلْمُسْلِمِينَ هَذَا أَفْضَلُ" .
فَبَيَّنَ
أَنَّ نَفْعَ هَذَا عَامٌّ لِلْمُسْلِمِينَ فِي دِينِهِمْ مِنْ جِنْسِ الْجِهَادِ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ" .
"مجموع الفتاوى" (28 / 231) .
مُلحق توضيح كلمة ( لَعَمْرِي ) في الحديث :
قلتُ : وحديث الترجمة هو كالحديث :
(
كُلْ ، فَلَعَمْرِي لَمَنْ أَكَلَ بِرُقْيَةِ بَاطِلٍ ، لَقَدْ أَكَلْتَ
بِرُقْيَةِ حَقٍّ ) .
رَوَاهُ
أَحْمد ، وَأَبُو دَاوُد وغيرهما .
قال
الطيبي في " شرح مشكاة" (7 / 2212)
:
"(فَلَعَمْرِي)
بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَضمِّها ؛ أَيْ : لَحَيَاتِي وَاللَّامُ فِيهِ للتأكيد [لَامُ
الِابْتِدَاءِ] . أقول : لعله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان مأذوناً بهذا
الإقسام ، وأنه من خصائصه ؛ لقوله تعالي : {لَعَمْرُكَ إنَّهُمْ لَفِي
سَكْرَتِهِمْ} ؛ قيل : أقسم الله تعالي بحياته ، وما أقسم بحياة أحد قط ؛ كرامة له"
.
"
شرح مشكاة" للطيبي (7 / 2212) ، و "مرقاة المفاتيح" للقاري (6 /
181 / 2986) .
قال
الشوكاني :
"
قَوْلُهُ: (فَلَعَمْرِي) أَقْسَمَ بِحَيَاةِ نَفْسِهِ كَمَا أَقْسَمَ اللَّهُ
بِحَيَاتِهِ ، وَالْعَمْرُ وَالْعُمْرُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَضَمِّهَا وَاحِدٌ ،
إلَّا أَنَّهُمْ خَصُّوا الْقَسَمَ بِالْمَفْتُوحِ لِإِيثَارِ الْأَخَفِّ .
وَذَلِكَ
لِأَنَّ الْحَلِفَ كَثِيرُ الدَّوْرِ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ ؛ وَلِذَلِكَ حَذَفُوا
الْخَبَرَ ، وَتَقْدِيرُهُ : لَعَمْرُك مِمَّا أُقْسِمُ" .
"نيل
الأوطار" (5 / 292) وفي أخرى (5 / 348) .
وأوجز
عبارة وأوضح معنى وجدته للعلامة بدر الدين العيني الحنفي (ت 855هـ) حيث قال :
"قوله
: (فَلَعَمْري) قسم ، وهو مرفوع بالابتداء ، وخبره محذوف ، والمعنى : لعمري قسمي ،
يعني : أحلف ببقائي ودوامي ، وأحلف بحياتي و"اللام" فيه للتأكيد ،
والعين فيه مفتوحة" .
"نخب
الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار" (16 / 357) .
قلتُ
: ومع هذا ؛ لم ترُقني هذه الشروحات
لكلمة (لَعَمْري) على أنها قسم ، حيث تضاربت بعض أقوال من فسرها بأنها قسم بحياتي
، ومنهم من قال : "لعله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان مأذوناً بهذا
الإقسام ، وأنه من خصائصه" .
قلتُ
: كيف تكون من خصائصه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وقد استعملها بعض الصحابة
كعائشة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا : "فَلَعَمْرِي ، مَا أَتَمَّ اللهُ حَجَّ مَنْ لَمْ يَطُفْ
بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ" -
رواه مسلم (1277)- وغيرها ، وبعض أهل العلم من أئمة
الدين من السلف بعد الصحابة ؟!
وممن نقلتُ عنهم ؛ اطلق بأنها قسم ولم يوضح ،
ومنهم من قال :
"يعني : أحلفُ ببقائي ودوامي" .
قلتُ
: إن كان من تلك المعاني المنقولة ما
هو موافق على أنها قسم ولكن ليس قسم بالحياة ؛ فهو قول مَن قال : "يعني : أحلف
ببقائي ودوامي" ، فهو أقرب إنْ كان المعنى على ما يستعمله البعض اليوم ونسمعه
مِن قَسَمٍ ؛ كقول القائل :
" والذي -واللي- يفقدني حياتي ما فعلتُ كذا وكذا"
.
فالمعنى
يكون : أنه أقسم بالله على عمره وحياته ؛ إذْ أن الله هو الذي يحيي ويميت وبيده
الحياة والموت ، فلم يُقسم بحياتيه ، وإنما أقسم بالذي يفقده الحياة - كناية عن
الذي يميته وهو الله تعالى .
فإن
كان المعنى على هذا ؛ فهو صواب ، لأني لم اقتنع أنه قسم بالحياة . والله أعلم .
ثم
اجتهد في البحث لعلي أجد ما يُقارب جوابي أو نحوه على قدر جهدي مع ضعفي وقلة
بضاعتي ؛ فوجدت ما أشفى غليلي وهو من قول محدث المدينة النبوية في عصره اليوم
الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد البدر حفظه الله إذ يقول :
"وقوله
: (لَعَمْرِي) هذه من الصيغ المؤكدة ، وليست قسماً ، والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كان يستعمل هذا كما في هذا الحديث، وعائشة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا
كانت تستعمل هذا كما جاء عنها أنها قالت : (لَعَمْرِي مَا أتَمَّ اللهُ عُمْرةَ مَنْ
لَمْ يَطُفْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ) .
وكذلك
يستعمله العلماء من أهل السنة ، فهو ليس من ألفاظ القسم ، وإنما هو من ألفاظ تأكيد
الكلام .
والشيخ
حماد الأنصاري رحمه الله كتب في هذا بحثاً ، وهو منشور في "مجلة الجامعة"
بعنوان (لَعَمْرِي)" . انتهى .
"شرح
سنن أبي داود" (رقم الدرس 391 / 9) "الشاملة" .
هذا ما تيسر لي في توضيح كلمة (لَعَمْرِي) .
وبالله
التوفيق .
كتبه /
أبو فريحان جمال بن فريحان الحارثي .
الجمعة 23 / 11 / 1437هـ .