عن الحسن -رحمه الله- أن عمر -رضي الله عنه- كان يقول:
"اللّهُمّ اجعل عملي صالحًا، واجعله لك خالصًا، ولا تجعل لأحد فيه
شيئًا". {رواه أحمد في "الزهد" (118)}



الاثنين، 20 يونيو 2016

حديث : إِنِّي امْرُؤٌ صَائِم .





حديث : ( إِنِّي امْرُؤٌ صَائِم ) .


قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
( إِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ ؛ فَلاَ يَرْفُثْ ، وَلاَ يصخب ، فإن سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ ؛ فَلْيَقُلْ إِنِّي امْرُؤٌ صَائِم [إِنِّي صَائِمٌ ، إِنِّي صَائِمٌ]) .         متفق عليه .
   
     
المعنى :

قال ابن عبد البر :
"قَوْلُهُ : (فَإِنِ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ : إِنِّي صَائِمٌ) ؛ فَفِيهِ قَوْلَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَقُولُ لِلَّذِي يُرِيدُ مُشَاتَمَتَهُ وَمُقَاتَلَتَهُ : إِنِّي صَائِمٌ ؛ وَصَوْمِي يَمْنَعُنِي مِنْ مُجَاوَبَتِكَ ؛ لِأَنِّي أَصُونُ صَوْمِي عَنِ الْخَنَا وَالزُّورِ مِنَ الْقَوْلِ ؛ بِهَذَا أُمِرْتُ ، وَلَوْلاَ ذَلِكَ لَانْتَصَرْتُ لِنَفْسِي بِمِثْلِ مَا قُلْتَ لِي سَوَاءً وَنَحْوَ ذَلِكَ ، وَالْمَعْنَى حِينَئِذٍ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ فِي الْحَدِيثِ : أَنْ الصَّائِمَ نُهِيَ عَنْ مُقَاتَلَتِهِ بِلِسَانِهِ وَمُشَاتَمَتِهِ وَصَوْنُهُ صَوْمَهُ عَنْ ذَلِكَ .

وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الصَّائِمَ يَقُولُ فِي نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ إِنِّي صَائِمٌ يَا نَفْسِي فَلَا سَبِيلَ إِلَى شِفَاءِ غَيْظِكِ بِالْمُشَاتَمَةِ وَلَا يُظْهِرُ قَوْلَهُ إِنِّي صَائِمٌ لِمَا فِيهِ مِنَ الرِّيَاءِ وَإِطْلَاعِ النَّاسِ عَلَى عَمَلِهِ لِأَنَّ الصَّوْمَ مِنَ الْعَمَلِ الَّذِي لَا يَظْهَرُ وَلِذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الصَّائِمَ أَجَرَهُ بِغَيْرِ حِسَابٍ" .

"التمهيد" (19 / 55) و "الاستذكار" (10 / 246) .

قال النووي :
"وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهُ ، فَقِيلَ : يَقُولُهُ بِلِسَانِهِ جَهْراً يَسْمَعُهُ الشَّاتِمُ وَالْمُقَاتِلُ ؛ فَيَنْزَجِرَ غَالِباً .

وَقِيلَ : لاَ يَقُولُهُ بِلِسَانِهِ ؛ بَلْ يُحَدِّثُ بِهِ نَفْسَهُ لِيَمْنَعَهَا مِنْ مُشَاتَمَتِهِ وَمُقَاتَلَتِهِ وَمُقَابَلَتِهِ ؛ وَيَحْرِصُ صَوْمَهُ عَنِ الْمُكَدِّرَاتِ . وَلَوْ جَمَعَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ كَانَ حَسَنًا" . "شرح مسلم" (8 / 28) .

قال ابن حجر :
"الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ : (قَاتَلَهُ) : شَاتَمَهُ ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ : يُطْلَقُ عَلَى اللَّعْنِ ؛ وَاللَّعْنُ مِنْ جُمْلَةِ السَّبِّ ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا ذَكَرْتُ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمُخْتَلِفَةِ ، فَإِنَّ حَاصِلَهَا يَرْجِعُ إِلَى الشَّتْمِ .

فَالْمُرَادُ مِنَ الْحَدِيثِ : أَنَّهُ لَا يُعَامِلُهُ بِمِثْلِ عَمَلِهِ ؛ بَلْ يَقْتَصِرُ عَلَى قَوْلِهِ : (إِنِّي صَائِمٌ) .
وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ : (فَلْيَقُلْ إِنِّي صَائِمٌ) ؛ هَلْ يُخَاطِبُ بِهَا الَّذِي يُكَلِّمُهُ بِذَلِكَ أَوْ يَقُولُهَا فِي نَفْسِهِ ؟
وَبِالثَّانِي جَزَمَ الْمُتَوَلِّي ، وَنَقَلَهُ الرَّافِعِيُّ عَنِ الْأَئِمَّةِ ، وَرَجَّحَ النَّوَوِيُّ الْأَوَّلَ فِي "الْأَذْكَارِ" ، وَقَالَ فِي "شَرْحِ الْمُهَذَّبِ" : كُلٌّ مِنْهُمَا حَسَنٌ ، وَالْقَوْلُ بِاللِّسَانِ أَقْوَى ، وَلَوْ جَمَعَهُمَا لَكَانَ حَسَناً .

وَلِهَذَا التَّرَدُّدِ أَتَى الْبُخَارِيُّ فِي تَرْجَمَتِهِ بِالِاسْتِفْهَامِ ، فَقَالَ : "بَابٌ هَلْ يَقُولُ إِنِّي صَائِمٌ إِذَا شُتِمَ؟" .
وَقَالَ الرُّويَانِيُّ : إِنْ كَانَ رَمَضَانُ ؛ فَلْيَقُلْ بِلِسَانِهِ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ ؛ فَلْيَقُلْهُ فِي نَفسه .
وَادّعى ابن الْعَرَبِيِّ : أَنَّ مَوْضِعَ الْخِلَافِ فِي التَّطَوُّعِ ، وَأَمَّا فِي الْفَرْضِ ؛ فَيَقُولُهُ بِلِسَانِهِ قَطْعاً" .
"الفتح" (4 / 105) .

قال القاري :

"قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : (فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ) ؛ أَيِ : ابْتَدَأَهُ بِسَبٍّ أَوْ شَتْمٍ (أَوْ قَاتَلَهُ) ؛ أَيْ : أَرَادَ قَتْلَهُ بِحَرْبٍ أَوْ ضَرْبٍ أَوْ مُخَاصَمَةٍ وَمُجَادَلَةٍ (فَلْيَقُلْ) : (إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ) ؛ وَهُوَ إِمَّا بِاللِّسَانِ لِيَنْزَجِرَ خَصْمُهُ ؛ فَكَأَنَّهُ قَالَ لَهُ : إِذَا كُنْتُ صَائِماً ؛ لاَ يَجُوزُ لِي أَنْ أُخَاصِمَكَ بِالشَّتْمِ وَالْهَذَيَانِ ، فَلَا يَلِيقُ بِكَ أَنْ تُعَارِضَنِي فِي هَذَا الْوَقْتِ ، لِأَنَّهُ عَلَى خِلَافِ الْمُرُوءَةِ عَادَةً ، فَيَنْدَفِعُ خَصْمُهُ .

أَوْ مَعْنَاهُ : فَلاَ يَنْبَغِي مِنْكَ التَّطَاوُلُ عَلَيَّ بِلِسَانِكَ ، أَوْ بِيَدِكَ ؛ لِأَنِّي فِي ذِمَّةِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَمَنْ يَخْفِرِ اللَّهَ فِي ذِمَّتِهِ يُهْلِكْهُ ، وَلاَ مِنِّي بِأَنْ أَغْضَبَ وَأُجَازِيَكَ ، أَوْ يَقُولُ فِي نَفْسِهِ لِيَعْلَمَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الْفُحْشُ وَالْغَضَبُ" .
"مرقاة المفاتيح" (5 / 448 / 1959) .

قال المناوي :
(فَلْيَقُلْ) بقلبه أو لسانه أو بهما وهو أولى" .
"فيض القدير" (4 / 471) .

وقال السندي :
(فَلْيَقُلْ) ؛ أَيْ : فَلْيَذْكُرْ بِالْقَلْبِ صَوْمَهُ ؛ لِيَرْتَدِعَ بِهِ عَنْ مُقَابَلَتِهِ بِالْمِثْلِ ، أَوْ لِيَقُلْ بِاللِّسَانِ ؛ تَثْبِيتاً لِمَا فِي الْقَلْبِ ، وَتَوْكِيداً ، أَوْ لِيَدْفَعْ خَصْمَهُ بِهَذَا الْكَلَامِ وَيَعْتَذِرُ عِنْدَهُ عَنِ الْمُقَابَلَةِ بِأَنَّ حَالَهُ لاَ يُنَاسِبُ الْمُقَابَلَةَ الْيَوْمَ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ" .
"حاشته على سنن ابن ماجه" (1 / 517) .


قلتُ : رحم الله هؤلاء العلماء ونفعنا بعلمهم ، وقول الرُّويَانِيُّ ؛ جامع وأقرب في المعنى للحديث ومقاصد الشريعة ، ومَن قال بقوله ؛ لأن قوله : (فَلْيَقُلْ) صريح بأنه قول ؛ والقول إذا أطلق ؛ فالمقصود باللسان وبصوت مسموع ؛ كقوله عند الأكل : (فَلْيَقُلْ : بِاسْمِ اللهِ فِي أَوَّلِهِ وَفِي آخِرِهِ) ، و قوله : (إِذَا عَثَرَتْ بِكَ الدَّابَّةُ ؛ فَلَا تَقُلْ : تَعِسَ الشَّيْطَانُ، ... ، وَلَكِنْ قُلْ : بِاسْمِ اللهِ) . والله أعلم .

وكأن الصائم المشتوم في قوله : (إِنِّي صَائِمٌ) لمن شتمه ؛ يقول : لولا حُرمة الصيام ؛ ولولا إني في ذِمّة الله ؛ لرددتُ عليك ، فسكوتي ليس عجزاً أو خوراً بل هو احترام وتقدير وتعظيم لحرمات الله وشعائره تعالى .
{وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} ، {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} . [الحج : 30 و 32] .

والله أعلم .


كتبه /
أبو فريحان جمال بن فريحان الحارثي .

1 / 9 / 1433هـ