عن الحسن -رحمه الله- أن عمر -رضي الله عنه- كان يقول:
"اللّهُمّ اجعل عملي صالحًا، واجعله لك خالصًا، ولا تجعل لأحد فيه
شيئًا". {رواه أحمد في "الزهد" (118)}



الثلاثاء، 7 يونيو 2016

الخلاف الوديع في الدعاء في آخر خطبة الجمعة الثانية ؛ لا يُجعل منه اختلاف بديع



الخلاف الوديع في الدعاء في آخر خطبة الجمعة الثانية ؛
لا يُجعل منه اختلاف بديع


الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين .
أما بعد :

فالبعض ممن لم ترسخ قدمه في العلم يجعل من المسائل الفقهية نِزاع وخلاف واختلاف ، وتنافر قلوب وأجساد ، وإن أحسنّا بهم الظن ؛ وصفناهم بالــمُقلِّدة ، فمثل هؤلاء يَبقون على تقليدهم ولا يجعلوا من الحبّة قبة .

فمسائل كثيرة نجد الشباب اليوم انشغلوا بها وأشغلوا أهل العلم ليستبيحوا تبديع إخوانهم المخالفين لهم وإن كانوا يرومون الحق بالدليل .

فبعضهم جعل وضع اليدين على الصدر أو إسدالهما على الجنبين بعد الرفع من الركوع ؛ نقطة خلاف وتنافر بل وتبديع !

والبعض يرون النزول للسجود على الركبتين وتأخير اليدين ؛ هو السنة ، والعكس عند البعض ! فأقاموا الدنيا ولم يقعدوها ؛ وبدأت الشحناء والتباغض وبدّع بعضهم بعضاً !


وما نحن بموضوعه وصدده كما في عنوان الرسالة ؛ هو من ذلك القبيل ، فإلى متى نكون حجر عثرة في طريق العلم ؛ ونشره بين المسلمين ، وترك الخلاف في المسائل التي لا يلزم المسلم أن يخالف أخاه المسلم ما دام الدليل فيها غير صحيح أو غير صريح أو يُحتمل ؟!


فلما بلغني وللأسف أن الخلاف وقع بين بعض إخواننا : هل يُدْعى في نهاية الخطبة الثانية يوم الجمعة أم لا ؟ وهل المداومة سنة أم بدعة ؟ وهل الدعاء لولي الأمر مشروع فيها أم غير مشروع ؟
وبعد أن طلب مني أحد إخواني الكتابة في ذلك بما تيسر ؛ وإن كنتُ لستُ بالكفؤ لذلك ؛ ولكن ترجح عندي بعدُ أنْ أحظى بأجر الوِفاق والمصالحة بين الإخوة المتنازعين في هذه المسألة . فاستعنت بالله وكتبت :

عَنْ سَمُرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ :
( كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَغْفِرُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ كُلَّ جُمُعَةٍ ) .

أخرجه البزار "البحر الزخار" (10 / 471) ، والطبراني في "الكبير" (7 / 317 / 7079) .

وقال البزار : "وَلاَ نَعْلَمُهُ يُرْوَى عَن النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيه وَسَلَّم بِهَذَا اللَّفْظِ إلاَّ عَنْ سَمُرة بِهَذَا الإِسْنَادِ" .


قال الصنعاني في "سبل السلام" :
"رواه البزار بإسناد ليِّن . وَفِي إسْنَادِ الْبَزَّارِ يُوسُفُ بْنُ خَالِدٍ الْبُسْتِيُّ ، وَهُوَ ضَعِيفٌ . وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ إلَّا أَنَّهُ بِزِيَادَةِ : (وَالْمُسْلِمِينَ ، وَالْمُسْلِمَاتِ)" .

قلتُ : قال الصنعاني كذا : "يُوسُفُ الْبُسْتِيُّ" ؛ وهو خطأ ، والصواب : السَّمْتِيُّ . والحديث ضعيف لا يُحتج به .



استئناس أهل العلم بحديث سَمُرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ :

قال الصنعاني :

"وَفِيهِ – أيْ : حديث سَمُرَةَ - :
"دَلِيلٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ ذَلِكَ لِلْخَطِيبِ ؛ لِأَنَّهَا مَوْضِعُ الدُّعَاءِ ، وَقَدْ ذَهَبَ إلَى وُجُوبِ دُعَاءِ الْخَطِيبِ لِنَفْسِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ، وَالْمُؤْمِنَاتِ أَبُو طَالِبٍ ، وَالْإِمَامُ يَحْيَى ؛ وَكَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ : إنَّ مُوَاظَبَتَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَلِيلُ الْوُجُوبِ ؛ كَمَا يُفِيدُهُ : (كَانَ يَسْتَغْفِرُ) .
وَقَالَ غَيْرُهُمْ : يُنْدَبُ وَلاَ يَجِبُ لِعَدَمِ الدَّلِيلِ عَلَى الْوُجُوبِ .
قَالَ الشَّارِحُ : وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ" .

"سبل السلام" (2 / 477) تح. الخولي ، و (2 / 122) تح. عطا .


قال عطية سالم – تلميذ الشنقيطي صاحب "أضواء البيان" - :

"من آداب الخطبة استغفار الخطيب للمؤمنين والمؤمنات – وذكر حديث سمرة ، وقال : - الغرض هنا الدعاء في الخطبة (للمؤمنين المؤمنات) ؛ أي : على العموم ، وقد كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستغفر لآحاد الناس ، وهذه سنة للخطيب أن يستغفر في خطبته للمؤمنين والمؤمنات .

ونتناول موضوع دعاء الخطيب لولي أمر المسلمين :
فبعضهم يقول : لا مجال له ، لأن هذه عبادة لله ، ولا ينبغي تعظيم غير الله .
وقال الآخرون : إن الدعاء لإمام المسلمين بالصلاح والإصلاح والبطانة الصالحة ، هو خير للمسلمين جميعاً ، كما قال أحمد رحمه الله : "لو كانت لي دعوة مستجابة لجعلتها إلى ولي أمر المسلمين؛ لأن في إصلاحه صلاح المسلمين" .

إذاً : لا مانع أن يدعو الخطيب لما يصلح الإمام في الدين والدنيا لا في مصالحه الخاصة والشخصية ، ولكن لمصلحة عموم المسلمين .
فعندما يقول : اللهم وفقه لما فيه الخير ، اللهم سدد خطاه ، اللهم انصر به الإسلام والمسلمين ، اللهم اجعله عوناً على طاعتك ، وأيد له بطانة تدله على الخير وتعينه عليه ، فهذه كلها دعوات ليست راجعة لنفس ولي الأمر في ذاته ، بل راجعة لعامة المسلمين .
إذاً : لا مانع في ذلك ؛ وهذا الحديث أصل في هذا وبالله التوفيق" .

"شرح بلوغ المرام" نقلاً عن "الشاملة" .


قال العثيمين :
"قوله : (ويدعو للْمُسْلِمِينَ) ؛ أي : يسن أيضاً في الخطبة أن يدعو للمسلمين الرعية والرعاة ؛ لأن ذلك الوقت ساعة ترجى فيه الإجابة ، والدعاء للمسلمين لا شك أنه خير ، فلهذا استحبوا أن يدعو للمسلمين .


ولكن قد يقول قائل : كون هذه الساعة مما ترجى فيها الإجابة ، وكون الدعاء للمسلمين فيه مصلحة عظيمة موجود في عهد الرسول صلّى الله عليه وسلّم ، وما وجد سببه في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم ولم يفعله فتركه هو السنة ؛ إذ لو كان شرعاً لفعله النبي صلّى الله عليه وسلّم ، فلا بد من دليل خاص يدل على أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يدعو للمسلمين ، فإن لم يوجد دليل خاص ؛ فإننا لا نأخذ به ، ولا نقول : إنه من سنن الخطبة ، وغاية ما نقول : إنه من الجائز ، لكن قد روي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم ( كَانَ يَسْتَغْفِرُ لِلْمُؤْمِنِينَ كُلَّ جُمُعَةٍ )  ، فإن صح هذا الحديث؛ فهو أصل في الموضوع ، وحينئذٍ لنا أن نقول : إن الدعاء سنّة .
أما إذا لم يصح ؛ فنقول : إن الدعاء جائز ، وحينئذٍ لا يتخذ سنّة راتبة يواظب عليه ؛ لأنه إذا اتخذ سنّة راتبة يواظب عليه ؛ فهم الناس أنه سنّة ، وكل شيء يوجب أن يفهم الناس منه خلاف حقيقة الواقع ؛ فإنه ينبغي تجنبه" .
"الشرح الممتع" (5 / 66) .

التحقيق :

قلتُ :
ولا يعني أن حديث سَمُرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ضعيف ؛ أن الدعاء في ختام خطبة الجمعة بدعة أو غير مشروع ، بل الدعاء ثابت في الخطبة بأحاديث أخرى ؛ إما بإشارة مفهومة شبه صريحة ، أو مصرحاً به من الرواة .

فَعَنْ عُمَارَةَ بْنِ رُوَيْبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ :
أَنَّهُ رَأَى بِشْرَ بْنَ مَرْوَانَ عَلَى الْمِنْبَرِ رَافِعاً يَدَيْهِ فَقَالَ :
"قَبَّحَ اللَّهُ هَاتَيْنِ الْيَدَيْنِ ، لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَزِيدُ عَلَى أَنْ يَقُولَ : (بِيَدِهِ هَكَذَا) وَأَشَارَ بِأُصْبُعِهِ المسبحة" .

رَوَاهُ أحمد (4 / 136) ، ومُسلم (874) ، وأبو داود (1104) ، والترمذي (515) ، والنسائي (1412)  و (1411) ط. التراث ، وفي "الكبرى" (1 / 531) ، وابن خزيمة في "صحيحه" (3 / 147 / 1793) ، وابن حبان في "التقريب" (882) و في "الإحسان" (879) ، والبيهقي في "الكبرى" (3 / 210) . واللفظ لمسلم عن ابن أبي شيبة .


قوله في الحديث :
(أَنْ يَقُولَ : بِيَدِهِ هَكَذَا) ؛ أي : يشير بيده ؛ فهو من إطلاق القول على الفعل .

يقول قائل : قوله في الحديث : (يَقُولَ : بِيَدِهِ هَكَذَا) ، قال بعض أهل العلم :
أَيْ : يُشِيرُ عِنْدَ التَّكَلُّمِ فِي الْخُطْبَةِ بِإِصْبَعِهِ يُخَاطِبُ النَّاسَ ؛ ولَيسَ المقصود رفعها في الدعاء ، لأن الرواية هذه ليس فيها ذكر الدعاء ؛ فما وجه استشهادك في الحديث بإثبات الدّعاء ؟

قلت : لفظ الدعاء جاء في الحديث في روايات عند بعضهم رحمهم الله :

فلفظ أحمد : "وَبِشْرٌ يَخْطُبُنَا ، فَلَمَّا دَعَا ؛ رَفَعَ يَدَيْهِ ، فَقَالَ عِمَارَةُ : .." .

 ولفظ أبي داود : "وَهُوَ يَدْعُو فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ ، فَقَالَ عُمَارَةُ : .." .

ولفظ الترمذي : "فَرَفَعَ يَدَيْهِ فِي الدُّعَاءِ ، فَقَالَ عُمَارَةُ : .." .

ولفظ ابن خزيمة : "وَهُوَ رَافِعٌ يَدَيْهِ يَدْعُو , فَقَالَ عُمَارَةُ : .." .

وقال : وَفِي حَدِيثِ هُشَيْمٍ : " .. فَرَفَعَ يَدَيْهِ فِي الدُّعَاءِ" .

ولفظ البيهقي : ".. رَأَى بِشْرَ بْنَ مَرْوَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي الدُّعَاءِ [بالدُّعَاءِ] وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ ، فَقَالَ : .." .

وصحح الحديث الألباني في "صحيح أبي داود" الأم (1012) – وقال فيه :
"قلت : إسناده صحيح على شرط الشيخين . وقد أخرجه مسلم في "صحيحه " . وقال الترمذي : "حسن صحيح" ، وصححه ابن خزيمة وابن حبان" - .
وصححه أيضاً في "التعليقات على ابن حبان" (879) .


قلتُ :
فثبت في الحديث بروايات المصرحين أنّ بِشراً كان يدعو في الخطبة وهو رافع يديه ، فأنكر عليه عُمَارَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وهو من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رفع اليدين ؛ ولم يُنكر عليه الدعاء في الخطبة .


ويؤيد هذا ؛ حديث سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ :

(مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاهِراً يَدَيْهِ قَطُّ يَدْعُو عَلَى مِنْبَرِهِ ، وَلاَ عَلَى غَيْرِهِ ؛ وَلَكِنْ رَأَيْتُهُ يَقُولُ: (هَكَذَا) ، وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ وَعَقَدَ الْوُسْطَى بِالْإِبْهَامِ).

أخرجه أحمد (5/337) ، وأبو داود (1105) ، وابن خزيمة (1450) ، والطبراني في "الكبير" (6 / 206 / 6023) ، والحاكم (1/535- 536) ، والبيهقي في "الكبرى" (3 / 210) .

قال الحاكم : "حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ" . ووافقه الذهبي .
وقال صاحب التعليق على "ابن حبان" في "إحسان" (883) : "حديث صحيح بشواهده" .
وحَسَّنَ الألباني إسناد الحديث في "الإرواء" (3 / 77) فقال :
"أخرجه أبو داود (1105) بإسناد حسن" .

ثم وجدته ضعفه في "ضعيف أبي داود" الأم (204) ، وأنكر على المعلق على "الإحسان" في "ضعيف أبي داود" الأم (10 / 9) .

قلتُ : فمثله يُستأنس به إذا ضُم إلى الحديث الصحيح قبله ، ويُعلم بذلك أن الدعاء في خطبة الجمعة ثابت .

قلتُ :
ونزيد الأمر تأكيداً بإيراد هذا الحديث الصحيح أيضاً بتصريحه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالدعاء في خطبته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التي خطبها في "فتح مكة" ؛ قال في آخرها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

( أَقُولُ هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ ) .

أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (14 / 494) ط. الهند ، وابن حبان في "صحيحه" (3817) .
وصححه الألباني ، والأرنؤوط في تعليقهما على "ابن حبان" (3828) .
وانظر "الصحيحة" (2803) .

فختم خطبته بالاستغفار ؛ وهو دعاء ، ويُسمى : دعاء عبادة .

ويُضاف إلى ذلك كله : أن الدعاء في ذلك الموطن مستجاب ؛ إذْ هو مظنة ساعة الاجابة التي في يوم الجمعة الواردة في الحديث المتفق على صحته :

"أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ يَوْمَ الجُمُعَةِ ، فَقَالَ :
( فِيهِ سَاعَةٌ ، لاَ يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ ، وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي ، يَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى شَيْئاً ، إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ ) . 
متفق عليه . على قول من حملها من أهل العلم : أنها من خُروج الإمام يوم الجمعة للخطبة إلى أن تنتهي الصلاة .


وكيف لا تكون الخطبة موطناً للدعاء – لا أقول لاستجابة الدعاء !- والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحث المسلمين - ذكوراً وإناثاً حتى الحُيّض من النساء – على حضور صلاة العيدين ، وعلل ذلك : لشهود الخير والدعاء .

قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( يَخْرُجُ العَوَاتِقُ وَذَوَاتُ الخُدُورِ ، أَوِ العَوَاتِقُ ذَوَاتُ الخُدُورِ ، وَالحُيَّضُ ، وَلْيَشْهَدْنَ الخَيْرَ ، وَدَعْوَةَ المُؤْمِنِينَ) .

رواه البخاري (318، 937) ، ومسلم (890) وغيرهما .
قوله في الحديث : (دَعْوَةَ المُؤْمِنِينَ) ؛ أيْ : دعاءهم .
وإن من دعاء المؤمنين ؛ دعاء الإمام الخطيب .

الخلاصة :

مما سبق من مجموع الأحاديث ؛ نجد أن الدعاء في خطبة الجمعة مشروع وجائز لا يُماري في ذلك إلا جاهل .
وأما كونه سنة ؛ فالقول بذلك أقرب ولا نجد غضاضة في أن نقوله ؛ باعتبار فعله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتعليله بخروج ذوات الخدور والحُيض ، وبإقرار بعض أصحابه لمن دعا على المنبر في خطبة الجمعة .

أليست السنة : فعله وعمله وإقراره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟

فلِمَ نتخوف من أن نقول : إن الدعاء في خطبة الجمعة : سنة ؟!

لكن ؛ هل يعني ذلك أننا نداوم على الدعاء في كل خطبة جمعة ونجعله سنة ؟
الجواب : لم نجد نصاً صحيحاً صريحاً ينص على المداومة ، ولم نجد نصاً ولو ضعيفاً على المنع من ذلك .
لكن المتفقه في النصوص الشرعية في هذه المسألة دون تعصب ؛ يجد أن الترك أحياناً هو الأقرب للصواب ؛ ولكن دون تبديعِ مَن داوم على ذلك ، لأن تبديعه يحتاج منه إلى دليل .
وليس لقائل أن يقول : هذه عبادة ، والعبادة توقيفية ، فنتوقف إلى أن يأتينا الدليل على المداومة .
فنقول : فاتك الفقه والحكمة ! ؛ "فالأدلة" مع من يجيزون الدعاء في خطبة الجمعة والاستغفار من الخطيب ، وكونه لم يرد نص في المداومة ؛ لا يعني ذلك نفي الحدوث أيضاً . فتنبه وكن حذراً من تبديع إخوانك دون بينة واضحة .

ولو قال قائل – وقد قيل - : إذا سلّمنا أن الدعاء مشروع وجائز , فلما تخصصونه بآخر الخطبة , فلتجعلوه في وسطها , أو أولها ؟!

فنقول : فاتك العِلمُ بالسنة وعمل السلف ، فالدعاء في الأصل يكون في ختام الحديث والخطبة ومجالس العلم والذكر ؛ لا في أوله أو وسطه – مع قولنا لا يمنع أن يكون في الأول أو الوسط - ، وكان بعض السلف ينُهُون مجالسهم بالدعاء ، ولنا في رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أسوة حسنة .
فقد ثبت أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ( أَقُولُ هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ ) بعد ما انتهى من خطبته يوم فتح مكة . وسبق تخريجه .

وكان يختم مجالسه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غالباً بالدعاء ، فَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ :

"قَلَّمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُومُ مِنْ مَجْلِسٍ حَتَّى يَدْعُوَ بِهَؤُلَاءِ الدَّعَوَاتِ لِأَصْحَابِهِ :

( اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا تَحُولُ بِهِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعَاصِيكَ ، وَمِنْ طَاعَتِكَ مَا تُبَلِّغُنَا بِهِ جَنَّتَكَ ، وَمِنَ الْيَقِينِ مَا تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيْنَا مُصِيْبَاتِ الدُّنْيَا . وَمَتِّعْنَا بِأَسْمَاعِنَا ، وَأَبْصَارِنَا ، وَقُوَّتِنَا مَا أَحْيَيْتَنَا ، وَاجْعَلْهُ الْوَارِثَ مِنَّا ، وَاجْعَلْ ثَأْرَنَا عَلَى مَنْ ظَلَمَنَا ، وَانْصُرْنَا عَلَى مَنْ عَادَانَا ، وَلاَ تَجْعَلْ مُصِيبَتَنَا فِي دِينِنَا ، وَلاَ تَجْعَلِ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا ، وَلاَ مَبْلَغَ عِلْمِنَا وَلاَ تُسَلِّطْ عَلَيْنَا مَنْ لاَ يَرْحَمُنَا )" .

رواه الترمذي (3502) واللفظ له . و الحاكم (1 / 528) وقال : "صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ" ، ووافقه الذهبي .
وقال الترمذي : "حَدِيثٌ حَسَنٌ" ، وحسنه الألباني في "الكلم الطيب" (ص 115/225/169) أيضاً .


وما كان في وسط الخطبة من الدعاء ؛ فإنه لحاجة عارضة كدعائه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الخطبة يوم الجمعة استجابة لذلك الرجل المستنجد ، ففي الحديث :

"أَنَّ رَجُلاً دَخَلَ يَوْمَ الجُمُعَةِ .. وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ يَخْطُبُ .. ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ : هَلَكَتِ المَوَاشِي ، وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ ، فَادْعُ اللَّهَ يُغِيثُنَا ، قَالَ : فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَيْهِ ، فَقَالَ : (اللَّهُمَّ اسْقِنَا)"

وتكرر ذلك في الجمعة التالية : (دَخَلَ رَجُلٌ مِنْ ذَلِكَ البَابِ فِي الجُمُعَةِ المُقْبِلَةِ ... ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ! هَلَكَتِ الأَمْوَالُ وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ ، فَادْعُ اللَّهَ يُمْسِكْهَا ، قَالَ : فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَيْهِ ، ثُمَّ قَالَ :

(اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا ، وَلاَ عَلَيْنَا ..)" . متفق عليه .



فماذا تقولون بعد هذه النصوص ؟! هل تُسلِّمون وتنقادون ؟

اللهم نعم .


وفي الختام : لا ينبغي أن تكون هذه المسائل وأمثالها موضع خلاف واختلاف بين الإخوة طالبي الحق ، فطالب الحق يقبل من أخيه الحق أو يُعذره في تبني قولٍ لا سيما إذا كان معه دليل يتمسك ويحتج به مثله ، وما كان اختلاف العلماء قديماً وحديثاً في المسائل إلا بسبب النص ، ولا زالوا يختلفون بسبب ورود النص وفهمه وتوجيهه وناسخه ومنسوخه .. ، ولا يجدون غضاضة في ذلك ولا يعاد بعضهم بعضاً ، فلماذا الشباب اليوم يُشدد بعضهم على بعض ؟ إما توافقني وإلا بدعتُك وهجرتك وحذّرتُ منك !
كالذين اختلفوا وتنافروا وبدّعوا بعضهم بعضاً في مسألة تحريك الأصبع في التشهد . سبحان الله !

والله ما كان الصحابة وأهل العلم سلفاً وخلفاً يفعلون ذلك .


وأستحضر في هذه العجالة من ذاكرتي قصة وقفت عليها قديماً جداً ولم أجد الوقت للبحث عنها الآن ؛ نقاشاً علمياً دار بين عالمين جليلين الشافعي وإسحاق رحمهم الله تعالى في مسألة : طُهر جلد الميتة بعد دبغه ، فالشافعي يرى طُهره ، وإسحاق على خلافه وكلا استدل بدليل ، ولم تختلف قلوبهما ولم يعاد بعضهم بعضاً ، ولم يتهاجرا ، وهي مسألة تحريم وتحليل ؛ أكبر من مسألة ندعو في آخر الخطبة أم لا ؟! وبعضهم يخرج من المجلس بعد المناظرة العلمية ويده في يد صاحبه . فتأملوا واستذكروا سيرة علمائكم السلف .


وبالله التوفيق .



كتبه /

أبو فريحان جمال بن فريحان الحارثي .

15 / 8 / 1437ه